من حقنا أن نعرف… من خطف عدنان حلواني ؟

بقلم جمال حلواني

مطر أيلول محطة سنوية لا تغيب بفعل الزمن، أو الوقت الذي يداوي الجراح، لا مطر أيلول وبداية الخريف ولا اصفرار أوراق الشجر ولا الوجع الآتي من مرارة الفراق والعتمة، مثلها مثل الأصوات الآتية من الأعماق تُخرج الجسد من داخله لتعريه أمام الحقيقة المرة.

لا الزمن، ولا الأزمات القاتلة، قادرة أن تنسينا أوجاعنا واشتياقنا إلى احبتنا: اباؤنا، اخوتنا واولادنا.

هل المطلوب أن نتدجّن ونسكت نقبل منطق الخطف وشروطه ونتائجه، حين نسمع أصواتا تقول : إن قضية الخطف باتت حدثاً إحتفالياً باهتاً، واحياؤه موضع تساؤل، حول بقاء هذه الرمزية؟! وهل هي رمزية أن نستذكر مفقودينا وكل مخطوفينا، وأن نقبل التخلي عن إنسانيتنا ومشاعرنا لفراقهم واحساسنا بالشوق إليهم.

هل ننسى أننا في قلب المحاولة لإيجاد وطن نحلم ببنائه. وطن ديمقراطي علماني تعددي منفتح على الآخر. ومجتمع متحرر من صيغ التسلّط وهيمنة الطوائف والعشائر وحكم زعماء القبائل، وأنظمة المحاصصة الضيقة والمعلبة. هل باستطاعتنا تجديد المحاولة وترميم الحلم ومواجهة الصعوبات الكبيرة، كي نبقى ويتوقف الخطف. أم نستمر في العيش أسوأ مما كان أيام الحرب وفي زمن القتل والخطف. هل باستطاعتنا أن نعاين تفكك الكيان والمجتمع وانهيار الدولة وزوال الوطن مكتوفي الأيدي مقطوعي الألسنة.

وعدونا بجهنم والآن عرفنا كيف يكون جحيم دانتي.

نسمع أصواتاً تعتبر أن فقدان الشخص وعدم وجوده يدخله مرحلة النسيان والإهمال، ولكنا حينها نفقد الإحساس بكل معاني الإنسانية، بينما لحظة الخطف هي استسلام وتسليم بالموت القادم دون استئذان. وحدهم من يفتقدون ثقتهم بأنفسهم، وقدرتهم على المواجهة يقبلون الخضوع ويفلسفونه وينظِّرون له.

والسؤال الذي لا جواب عليه: ماذا عن أشلاء “مفقودي” انفجار المرفأ الذي دمّر ثلث المدينة واطاح بالآف البيوت والمؤسسات والمدارس والمستشفيات والمؤسسات الصحية؟

ماذا عن مفقودي السبت الأسود، وحرب الجبل، والمخفيين والمفقودين قسراً في جولات الاقتتال الأهلي المتنقلة على مدار سنوات طويلة في سائر انحاء الوطن الذي يراه كل منا، وكأنه لا يتسع الا له دون سواه.

وما فائدة القول: لن تصلوا إلى نتيجة. وأهالي المفقودين يتناقصون يومياً بفعل الموت. وان تحركاتهم المثابرة ونضالاتهم، لن تصل بهم إلى بر الأمان، وسوف تتبدد صرخاتهم مع الريح في فضاء دون صدى .

غير أنكم أنتم وحدكم فقط تحملون وجعكم والآمكم واحزانكم وكأنكم منذورون لحالة الشقاء والبؤس المادي والنفسي والمعنوي. أربعون عاماً كانت قضية المخطوفين والمفقودين تكبر وتحتل مواقع متقدمة على الصعيد المحلي الشعبي والرسمي والدولي.

بعد سبعة وثلاثين عاماً من النضال والتعب ودموع الأمهات والأولاد، الذين اصبحوا هم أيضا آباء وامهات، وتحت ضغط لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين والأهالي، ودعم مؤسسات محلية ودولية وفعاليات وناشطين تأسست الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بمرسوم. إنجاز كبير تحقق يعبر عن الأمل، وشعاع ضوء داخل النفق المظلم المهيمن. عربياً ودولياً احتلت قضية المفقودين والمخفيين قسراً اهتمام منظمات إنسانية وحقوقية، سبق وعملت على قضايا الخطف في عدد من بلدان العالم في اميركا اللاتينية وغيرها.

هذه القضية ليست شعارات إنسانية فقط، بل هي قضية وطن بقدر ما جسّدت من تلاقٍ بين فئات المجتمع اللبناني وطوائفه ومكوناته، ليسوا مهتمين إلى من ينتمون. توحدت الرؤية لأن القضية حاضرة، ليست قضية احزان ودموع وعمل انساني، بل هي جزء من الشفاء الاجتماعي ومدخل لتوحيد البلد. ولأنها قضية بحجم الوطن، لم تستطع الطوائف أن تجزئها وتفتتها، كما فعلت في العديد من القضايا، كونها متورطة ومعنية ومنغمسة في الخطف وطمس القضية، وأي غوص فيها يدينها في الصميم.

ولن تنتهي مأساة البلد وجراحات حربه الأهلية بتفرعاتها، الاّ مع انتهاء مفاعيل الخطف، والوصول إلى معرفة مصير المفقودين جميعاً.

لن نصغي إلى أصوات الشؤم وانسداد الأفق، نحن مستمرون في العمل الدؤوب. وتبقى مسألة معرفة مصير كل المخطوفين والمفقودين حاضرة وتشكل لنا الأهمية الكبيرة على جدول أولوياتنا الديمقراطية والسياسية.

جاء أيلول وأطلت ذكرى خطف أخي المناضل عدنان حلواني “أبو زياد”، واقتحام العدو الإسرائيلي لمدينة بيروت التي تمثل احدى المحطات المظلمة، غير أن أيلول يحمل أيضا الشعلة المضيئة في تاريخ البلد التي مثلتها انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.

ففي 27 أيلول 1982 خرجت قوات الاحتلال الإسرائيلي من مدينة بيروت مدحورة، وهي تنادي بمكبرات الصوت : ”يا أهالي بيروت لا تطلقوا علينا النار فنحن منسحبون”.

ويبقى أيلول وبكل تناقضاته علامة فارقة في تاريخ الوطن.

أخي عدنان، البلد ليس بخير، الكيان مهدد والمجتمع يعيش أزمة الانتماء إلى وطن مستقل ومتنوع وديمقراطي.

أخي عدنان، الأولاد كبروا واصبحوا آباء ولدينا احفاد نرضعهم ونطعمهم قضيتك مع كل المفقودين والمخفيين قسراً.

فمن حقنا ان نعرف.

من حق وداد وغسان وزياد وأخوتك وأحبتك أن يعرفوا.


خُطف الرفيق عدنان حلواني عضو المكتب السياسي لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، وأمين سر منطقية بيروت من منزله في بيروت ـ منطقة رأس النبع يوم 24 أيلول 1982.

اخترنا لك