-بقلم د. ميشال الشماعي
يلفت الأستاذ إيلي محفوض إلى أنّ التواصل بين السوريين وعون لم ينقطع. وهو كما أشار لجسور أنّ ” عون فتح علاقات مع السوريين منذ ثمانينيّات القرن المنصرم.” وما تمكّنه من العودة إلى بيروت في العام 2005 إلا لأنّه نجح بالتفاوض معهم، والأكثر قدّم لسلطتهم في لبنان ما تحتاجه من غطاء مسيحيّ لتؤمّن استمراريّتها، حتّى بعد الانسحاب السوري في 26 نيسان/ ابريل 2005.
حقائق عن 13 تشرين
من 13 تشرين الاول / اكتوبر حتى 2005 مَن كان يزوره، ومَن كان يلتقي؟ وكيف عاد؟ بأي صفقة؟ ويكشف محفوض أنّ بقرادوني وإميل إميل لحود كانا ساعيي البريد بينه وبين النظام السوري وهما مَن رتّبا عودته إلى لبنان في العام 2005.
ودائمًا بحسب ما قاله محفوض لجسور أنّه من ” المهمّ كشفه للرأي العام أنّ عمليّة 13 تشرين من الواضح أنّها كانت عمليّة مدبرة، ولم يكن هنالك أيّ نيّة من قبل العماد عون آنذاك للمقاومة وبالإستمرار حتّى اللحظة الأخيرة.” وما لا يمكن لأيّ عاقلٍ أن يتقبّله، هو ذلك التخلّي الذي قد يقدم عليه أيّ قائد في العالم فيضحّي بعسكره لينجو بنفسه. وهذا النموذج من القادة قد لفظه التّاريخ، وما ذكره إلّا للإتّعاظ، ولتبكيت ضمائر الشعوب، وذاكرة ضعفاء النّفوس الذين قد يبرّرون لهم ما ارتكبوه بحقّهم، فيتحوّلون إلى عشّاق لجلادهم حتّى باتوا الأنموذج الأمثل لمتلازمة ستوكهولم.
ويتابع محفوض حديثه لجسور معتبرّا أنّ “الجريمة الأكبر التي ارتكبها عون آنذاك بحقّ عسكره وضبّاطه هي أنّه تركهم في ساحة القتال حتّى الساعة 2 بعد الظهر ليكتشفوا أنّه قد أذاع بيان استسلامه عبر الراديو في التاسعة والربع صباحًا داعيًا أركان جيشه إلى تسليم القيادة للعماد لحّود.” وهذا أمر بديهي بالنسبة إلى العسكر لأنّهم يتلقون تعليماتهم عبر الأجهزة العسكريّة وليس عبر الراديو والإذاعات المحلّيّة. ويعتبر محفوض أنّ “عون” بما أقدم عليه قد “ضرب المناقبيّة العسكريّة برمّتها.”
عون ضرب أخلاقيّات المقاومة والصمود
وبعيدًا من السياسة يثير محفوض مسألة يعتبرها أخلاقيّة – إنسانيّة وهي قضيّة التبرّعات التي كانت ترد لعون وقتذاك إلى قصر الشعب بإسم الشعب ولأجل هذا الشعب. ويرى محفوض أنّ المبدأ هو “أنّ هذه الأمول كلّها وصلت إلى عون في تلك المرحلة ليصرفها على قضيّة سامية. فالسؤال المطروح: أين هي هذه الأموال اليوم؟” وهو، أي محفوض، يقرّ أنّه لا يملك أيّ دليل ولا أيّ نيّة تشكيك فمن الممكن، كما قال لجسور، أن يكون عون قد “تبرّع بها للأرامل وأولاد الشهداء. فالمطلوب منه مكاشفة اللبنانيّين. فلا قدّر الله وبعد عمر طويل رحل العماد عون، ستؤول هذه الأموال إلى ورثته بحكم القانون.”
ويعتبر محفوض كاشفًا لجسور أنّ ” هذه الجريمة، أي 13 تشرين، لا تقتضي فقط على قتل العسكر وخطفهم والراهبين الأنطونيين شرفان وأبي خليل من دير القلعة، بل هنالك مجزرة حدثت في بلدة بسوس عندما دخلتها القوات السوريّة وقتلت فيها 13 شخصًا مدنيًّا من بينهم طفلان، قتلهم المحتلّ السوري أمام أهلهم بهدف إذلالهم أكثر.” فهذه المجزرة بحسب محفوض كغيرها من ارتكابات المحتلّ السوري “يجب ألّا تُنسى.”
ويتابع محفوض متحدّثًا عن ذلك اليوم مشيرًا إلى انّ عون ” كان قد قرّر تسليم الشرعيّة إلى الياس الهراوي بعد قبوله بالبنود العشرة التي تمّ المفاوضة عليها. ولكنّه لالتزامه بالمخطّط السوري بتدمير المنطقة الحرّة آنذاك لم يعلن استسلامه إلّا بعدما تمّ ما أوكل إليه.” ويعتبر محفوض أنّه ” لو سلّم عون وقتذاك والتزم بما فاوض السوري لتفادى أحداث 13 تشرين. لكنّه فاوض ولم يسلّم، ولم يقاوم حتّى الموت. فهذا هو خطأ عون في تلك المرحلة بحسب ما أوضح محفوض لجسور ” هو رحل وترك النّاس كلّهم لمصائرهم السوداء. وهذه الجريمة قد أدخلت المناطق الحرّة تحت الاحتلال السوري الذي دنّس وزارة الدفاع ونهب منها تاريخ لبنان من أيّام فخر الدين وكذلك القصر الجمهوري. فهذه كلّها يجب أن يتحمّل مسؤوليّتها وعليه أن يعترف بخياراته الخاطئة في تلك المرحلة.
تأكيد الشكوك
ويجزم محفوض انّه ” خلال هذه السنوات الـ15 التي خضع فيها لبنان للإحتلال السوري كان هنالك تواصل بينهم وعون. وأبرز الذين ساعدوا عون في تمتين تلك العلاقة هو الوزير إيلي حبيقة الذي أنقذه عون مع الوزير الياس المرّ في انتفاضة كانون 1986 يوم دخل سمير جعجع آنذاك وحاصرهم في المجلس الحربي.” ويكشف محفوض لجسور في هذا السياق أنّ “السيارات نفسها التي تمّ فيها نقل بناته وزوجته من القصر الجمهوري إلى السفارة الفرنسيّة هي ذاتها التي تمّ فيها إخراج حبيقة والمرّ من المجلس الحربي.”
ويتابع محفوض في كشف تفاصيل ذلك النهار المشؤوم فيفيد جسور بأنّ ” العميد عادل ساسين، قائد الشرطة العسكرية انذاك، الذي لجأ إلى السفارة الفرنسيّة في ذلك النهار، تمّ نقله في سيارات خاصّة، وبمواكبة عناصر إيلي حبيقة الذي كان يفاوض عون قبيل 13 تشرين للتسليم.”ويوضح محفوض بتعجّب لجسور لحظة اعتقال المناضلين السياديّين في فترة النضال ضدّ الاحتلال السوري فيقول لجسور: “عندما كنّا نعتقل من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية – السوريّة كنّا نتعجّب كيف لا يتمّ التعرّض إلينا بأيّ شيء، بينما بالمقابل كان يتمّ الاعتداء على شباب القوّات اللبنانيّة بأبشع أنواع الاعتداءات النفسيّة والجسديّة.”
وعن أحداث 7 آب / اغسطس 2001 يصرّ محفوض ” على وجود تواطؤ بين عون والأجهزة الأمنية في تلك المرحلة لأنّ الهدف الدائم كان ضرب المقاومة اللبنانية التي كانت تتمثّل بحزب القوات اللبنانيّة.”ويستذكر محفوض في السياق عينه ما قاله عبد الحليم خدّام في مقابلته على تلفيزيون الجزيرة حول دعمهم له في حرب الإلغاء المشؤومة ضدّ القوّات اللبنانيّة. فهذه الدلائل كلّها تشير إلى وجود تنسيق دائم بين عون والسوريين في المراحل التي أشار إليها محفوض بحسب ما استنتج في حديثه لجسور. 13 تشرين كبّدت لبنان جريمة كبيرة وهي إخضاع المنطقة الحرّة للإحتلال السوري.
مشاركات سياسيّة مشبوهة بعد 13 تشرين
والخطير فيما يكشفه محفوض هو عن مرحلة النّضال بعد 13 تشرين حيث العمل كان بالعمق السياسي، فيقول:” كان يرسلنا عون لتمثيله في مختلف الاجتماعات السياديّة، لكن الملفت بعد دخولنا كنّا نتلقّى اتّصالاً منه يأمرنا بالانسحاب وبتخريب الاجتماع السيادي من الدّاخل.” ويستذكر ما حصل معه في مؤتمر المعارضة الذي عقد لمقاطعة الانتخابات النيابية في آب / اغسطس من العام 1992 حيث عقد الاجتماع في أوتيل دالاس وطلب منه الردّ على شاكر بو سليمان وبطرس حرب، فتلقى أمرًا من عون بالانسحاب فانسحب.
ويلفت محفوض الى أنّ ” هذه المسألة تكررت أكثر من مرّة في اجتماعات القوى المسيحية سواء أكان في بكركي أم في غير مكان.”ويلفت محفوض إلى نمطيّة عون السياسيّة حيث ” لم يكن يرسل موفدًا واحدًا من ألبير منصور إلى محسن دلول وبعض ضبّاط الجيش الذين كان يرسلهم إلى القيادة السوريّة لبعث الرسائل. وذلك ليتنصّل من أيّ موفد قد يفشل ويتبنّى الآخر الذي قد ينجح.” ويستذكر محفوض كيف كلّفه عون بإلقاء كلمة في إحدى المناسبات لينكر بعدها ذلك. ويرى محفوض انّ هذه الطريقة هي التي سمحت له بتكوين تيّار سياسي مرتبط به بشكل مباشر. ” فهو من أمهر من يقتنص الفرص. برأي محفوض.
ويتابع حديثه :” وضع الكتاب البرتقالي ضدّ حزب الله ليحصد 73.5 من نتائج الانتخابات ليذهب بعد ذلك إلى تفاهم مار مخايل ليقدّس سلاح ميليشيا حزب الله. فهو يتموضع مع الجهة الأقوى دائمًا لتأمين مصلحته بهدف تأمين استمراريّته. وضع الإبراء المستحيل وانقلب عليه.
وعندما أدرك ان ممرّ الرئاسة يمرّ بمعراب ذهب إلى معراب لينقلب عليها بعد وصوله إلى الرئاسة ويعادي كلّ الأطراف المسيحيين السياديين، وحتّى بكركي لم تنجُ من سهامه. مقابل علاقة راسخة مع عرابه السياسي حزب الله.”
نهاية الظاهرة العونية
ويؤكّد محفوض لجسور أنّ” هذه النمطيّة السياسيّة تردّ أيّ مُطَّلعٍ إلى الكمّ الهائل من الخدمات التي قدّمها عون للسوريين من توليه قيادة الجيش والحكومة الانتقاليّة مقابل وعده برئاسة الجمهوريّة في حال قضائه على الجناح العسكري للقوات اللبنانية، الأمر الذي لم ينجح به.” ويعود محفوض إلى تعاطيه (عون) مع ياسر عرفات وصدّام حسين، وكلّها أسئلة تفضي إلى أنّه كان ينفّذ مشروعًا مضمرًا. ونصيحة عرفات الشهيرة له : “تذكّر قصّة الثور الأبيض”، في الاشارة إلى نصحه بعدم الدخول في حرب مع القوّات لأنّ ذلك سيؤدّي إلى سيطرة سوريّة كاملة.
وهذا ما حصل بالتمام.”ويختم محفوض حديثه لجسور لافتًا إلى أنّ “هذه الظاهرة لا يمكن مقاربتها سياسيًّا، بل يجب قراءتها سيكولوجيًّا لأنّها مزيج جمع الحاقدين من الأحزاب المسيحية اليمينيّة، القوّات اللبنانية والكتائب والأحرار وحراس الأرز والتنظيم، وحتّى الرابطة المارونيّة وغيرها، إضافة إلى الكتلة الوطنية واليساريين الذين لم يحظوا بأدوار في أحزابهم كالبعثيين والقوميين والشيوعيين وغيرهم. وذلك كلّه لأنّ ميشال عون لم يظهر حقيقته إلا بعد العام 2005.” ويكمل محفوض مستشرفًا نهاية هذه الظاهرة السياسيّة بتحوّلها إلى “بدعة سيكو – اجتماعيّة تؤلّه الزعيم وتندثر كأوراق الخريف.” فعلى ما يبدو أنّ المسار السياسي الذي اتّبعه هذا الشخص بعد هذه المرحلة جعله يسقط نفسه بنفسه؛ لكن المجتمع المسيحي دفع مرّة ثانية ثمنًا باهظًا لسياساته، حتّى انّ المجتمع اللبناني اليوم يدفع ثمن تبوّئه سدّة الرئاسة الأولى.
ترى، ماذا سيكون حكم التّاريخ على هذه المرحل ة؟ هل سينصف الذين ظُلموا أو خطفوا أو قتلوا ؟ أم سيقولون : ضيعان اللي راح من عمرنا” ؟