بقلم عقل العويط
الشجرة أختي. أمّي. ابنتي. وقد تكون زوجتي. أو عشيقتي. وقد تكون بلادي. بل لا بدّ من أنْ تكون هي بلادي. علنًا جهارًا. وعلى رأس السطح. وفوق رؤوس الأشهاد.
أليست الشجرة كائنًا حيًّا؛ طفلةً، آنسةً، امرأةً، وأمًّا؟! الشجرة، على حدّ علمي، تفكّر. تشعر. تكافح. تناضل. تشقى. تحلم. تفرح. تتوجّع. تتألّم. كما أنّها تتعب فتغفو، ثمّ تستيقظ، لتواصل شرطها الوجوديّ، مثلما أيضًا تفعل أمورًا أخرى، كثيفةً وكثيرةً ومضنيةً، لكنْ بصمت.
ولا سيّما: بحرّيّة. ودائمًا بحرّيّة. وهي حين تنمو، وتزهر، وتغتبط، وتحبل، وتحمل، وتثمر، وتتعرّى، وتنخرط في حركيّة الفصول وإيقاعاتها، إنّما تؤدّي هذا كلّه، كما لو كانت معنيّةً بشأن الخلق والخليقة مطلقًا، متورّطةً فيه التورّطَ الذي لا مناص منه ولا مفرّ: لأنّها الحياة. ولأنّها الحلم. وأيضًا – وخصوصًا – لأنّها حرّيّة.
قرأتُ مثلًا أفريقيًّا هائل المعنى، بارقًا، غنيًّا، قليل الكلام، يخصّ الشجرة، خلاصته هي الآتية: الفأس تنسى. الشجرة تتذكّر. ومغزاه أنّ الفأس التي تقطع الشجرة لا تتذكّر جريمتها هذه، ولا تبالي بها (إذا هي تذكّرت) في حين أنّ الشجرة تتألّم. ألمُها يصبح جزءًا من حياتها وكينونتها. لذا هي لا تنسى.
كيف لشجرةٍ أنْ تنسى ذكرياتها، وخصوصًا إذا كانت مفجعة؟!
وإذا كانت الشجرة لا تنسى، فكيف لها أنْ تتناسى؟!
وإذا كانت لا تتناسى، فكيف ينبغي لها أنْ تتعامل مع قاتلها؟! أتغفر له؟ّ! أتنام في فراشه؟! أتحبل منه؟! ومنه تلد وتنجب؟!
هذا في ما يخصّ الشجرة. ماذا عن الفأس؟
الفأس آلة. آلةٌ فحسب. وقد تكون “عاقلة”، بمعنى “عارفة”. وهي إذ تقتل، تكون ضدّ الحلم، وضدّ الحياة، وضدّ الحرّيّة. وقطعًا تكون ضدّ الحبّ، والأمل، والبنوّة، والأنوثة، والأمومة. وإلى آخره. وإذا كانت رمزًا، فإنّها ترمز إلى القسوة والجلافة والعنف والقتل والجريمة. فهي تجرح. وتحزّ. وتذبح. وتفجّ. وتقتل. وعندما تفعل هذا كلّه، إنّما تفعله – أكاد أقول – بلذّةٍ داميةٍ ودمويّة. وبلا مبالاة. علمًا أنّها بلا مشاعر. وإذا ثمّة لديها من “مشاعر”، فهي “مشاعر مضادّة”، بل “مشاعر منافية للمشاعر”. سينيكيّة، لئيمة، ماحية، ماحقة، لاغية. ومن فرط ما تقتل، هي تنسى. علمًا أنّها، عندما “اختارت” مصيرها، اختارت في الآن نفسه أنْ تلغي ذكرياتها، وما ينجم عن الذكريات من مشاعر.
الفأس لا تتذكّر. لو كانت تتذكّر، لانتحرتْ، لَقتلتْ نفسها بنفسها.
الفأس مجرمة. وهي تقتل لأنّها بلا مشاعر. لأنّها فاقدةٌ كينونتها ومعياريّتها الإنسانيّة والبشريّة. وهي تواصل القتل، وتوغل، وتفحش، لأنّها لا تشعر بذنب، ولا بتأنيب. هي لا تتذكّر قتلاها. فقط تراكمهم. و”تحتفل” بالمشهد.
نبّهني أحدهم إلى أنّ “يد” الفأس خشبٌ مقتطعٌ من شجرة، بل خشبٌ منقلبٌ على كينونته، على بنوّته، وقاتلٌ أمّه الشجرة.
والحال هذه، كيف لأمٍّ أنْ تنسى، كيف لشجرةٍ (لبلادٍ) أنْ تنسى، وأن تتناسى، وأنْ تغفر، إذا كان قاتلها هو “فيها” و”منها”؟!
“الفأس تنسى، الشجرة تتذكّر”. هذا المثل الأفريقيّ الهائل، هو أيضًا وخصوصًا مثلٌ لبنانيٌّ بامتياز.
هذا المثل، فكِّكوه، وحلِّلوه، تعرفوا أنّه لبنانيٌّ بامتياز. والسلام.