١٧ تشرين… الفرصة الضائعة

بقلم د. عايدة الجوهري – أستاذة جامعية وكاتبة وباحثة

أدخلتنا ثورة 17 تشرين في حلم الانتماء إلى وطن يكتسب مشروعيته وشرعيته من النهوض على مفاهيم القانون والحق والقضاء، والحرية والمساواة والعدالة، والرفاه، وكلها مفاهيم نادى بها الإنسان المعاصر منذ استرشد بالعقل والمنطق.

لأسابيع قليلة، أربكت ثورة 17 تشرين أحزاب السلطة، فلم تعد هي اللاعب الوحيد على المسرح السياسي، وتبدلت المعادلة السياسية في لحظات سخرية مسكرة، وتحول المحكوم، المصادرة حرياته، إلى حاكم، وأعيد تعريف الديمقراطية بما هي الطريقة التي تمارس بها الشعوب الحرة سيادتها، فكانت تمرينًا سياسيًّا رائعًا.

تفوقت قوة ثورة 17 تشرين الأخلاقية على قوتها الميدانية واللوجستية، فكشفت عري أحزاب السلطة القانوني والأخلاقي، في الساحات وأمام العالم أجمع، وفضحت زيفها ونفاقها.

ومن ناحية أخرى، وإذا استثنينا بعض أحزاب السلطة، التي تسلقت الثورة طمعًا بمضاعفة حصتها في السلطة، كشفت الثورة تمتُّع شريحة واسعة من اللبنانيين بوعي اجتماعي سياسي مدني، غير مسبوق، يُعتدّ به لاستكمال الصراع ضد المنظومة.

هي إذن حدث سياسي تاريخي كبير يحيل إلى مفهوم الوعد، والوعد هو شكل من أشكال الاتفاق بين الأشخاص، هو وعد أبرمه اللبنانيون الغاضبون، فيما بينهم، بأن يعملوا معًا من أجل تغيير الأمر الواقع، والشروع المضني والمغري في بناء وطن، بقطع النظر عن انتماءاتهم الطائفية والمناطقية وحتى الاجتماعية.

ولكنّ ثورة 17 تشرين، بما هي حلم ووعد وضرورة، ورهان على الممكن والقابل للتحقق، تفككت، واضمحل زخمها، وانفض الناس عنها دون أن تحقّقَ أهدافها.

هي أدت آنذاك إلى استقالة الحكومة، ولكنّها سرعان ما أضاعت خطابها وأهدافها، فكانت حكومة التكنوقراط التي لم تقلّ سوءًا، تركيبةً ونهجًا، عن سابقاتها، وكانت الثورة في المقابل سادرة، مأخوذة، تنظر إلى صورتها في المرآة وتنبهر، وتتغرغر بإنجازها الأول، مثلها مثل نرسيس، وطال اندهاشها و انتشاؤها إلى أجل غير مسمى أدى إلى تلاشيها، والثورات تقاس بإنجازاتها خصوصًا لا باستعراضاتها.

هو مثلٌ أولي أسوقه للدلالة على فوضى الأهداف المتصلة بفوضى التنظيم، والتي أدت إلى إرباك الشارع الثوري وطمأنة المنظومة في علاقة جدلية، أدت إلى تحفيز الثورة المضادة وتأهبها.

وهل كان للثورة أهداف جلية أصلاً، تحولت إلى برنامج مرحلي متماسك ومنطقي تسعى إلى فرض تحقيقه على المنظومة، وآخر بعيد المدى ؟ أم مجموعة شعارات و صيحات وهتافات متناثرة؟ وهل وضعت، إن وُجد في الكواليس، استراتيجية ضغط واضحة لتحقيقه هدفًا هدفًا ؟

إنّ التنظيم هو قاطرة العمل السياسي، أكان تغييريًّا أم محافظًا، والثورة الحلم والوعد، لم تأتي بالثمار المتوقعة منها، رغم التفاف مئات الألوف من اللبنانيين حولها، وبصدق، ولقد أثبت التاريخ عجز المجموعات الصغيرة الشللية والمتناثرة، والأندية والحلقات المغلقة، في إحداث التغيير، لأنّها تبقى حبيسة خطابها.

ولم تلقَ دروس الثورة آذانًا وعقولاً صاغية حتى الآن، ولم تكن المشاركة في الانتخابات النيابية الأخيرة والإتيان بمجموعة نواب جدد غير متجانسين، وفاقدين، فوق ذلك، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي موحّد، وآليات عمل موحدة، هو الحل الأمثل لإخراج الثورة من أزمتها.

وهذه إشكالية أخرى وإن كانت متصلة، وتحتاج إلى تحليل مستقل، علمًا أنّ الوقائع الأخيرة المتعلقة بأداء النواب التغيريين تُثبت صحة الفرضية التي تقول إنّ غياب الحاضنة السياسية الناظمة لأي عمل تغييري آل وسيؤول إلى ضياع الفرص.

اخترنا لك