بقلم غسان صليبي
مع احتدام المعارك منذ شهر ونصف الشهر بين إسرائيل و”حزب الله”، وتوسع الحرب وتسببها بموجة نزوح كثيفة من الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، علت أصوات لبنانية كثيرة تطالب “حزب الله” بالعودة الى الدولة، على افتراض أن النكبة التي حلت بلبنان هي نتيجة استقلالية الحزب عن الدولة وتفرده بقرار الحرب والسلم، وما نتج عن هذه الاستقلالية من مغامرة عسكرية أثبتت الوقائع انها كانت مخطئة بحيثياتها وتوقعاتها. وقد ترافق مطلب “عودة حزب الله الى الدولة” مع الكلام عن سقوط “الشيعية السياسية”، والحرص في الآن نفسه على عدم “عزل الشيعة”.
مع موافقتي على صحة الإفتراض الذي بُني عليه، غير أن مطلب “عودة حزب الله إلى الدولة” يبدو لي غير متناسب مع جذور المشكلة، كما ان الكلام عن “شيعية سياسية” وعن “عزل الشيعة”، هو استخدام لمفاهيم في غير محلها. أوضح موقفي النقدي بالملاحظات التالية:
١- “حزب الله” لم يخرج من الدولة ليعود اليها. معروف ان “حزب الله” تأسس على يد “الحرس الثوري” الإيراني، سنة ١٩٨٣، وهو يقول عن نفسه بوضوح لا لبس فيه، انه يتبع عقيدة ولي الفقيه الايراني. وقد جاء في الرسالة المفتوحة بعنوان “من نحن وما هي هويتنا؟”: “إننا أبناء أمة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران وأسست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم، نلتزم أوامر قيادة واحدة حكيمة تتمثل بالولي الفقيه الجامع للشرائط. كل واحد منا يتولى مهمته في المعركة وفقاً لتكليفه الشرعي في إطار العمل بولاية الفقيه القائد. نحن في لبنان لا نعتبر أنفسنا منفصلين عن الثورة في إيران”. وأكد الراحل السيد نصرالله مراراً على هذا الكلام، معتبرا نفسه “جندياً عند ولي الفقيه”.
اذاً نحن منذ البداية أمام مشكلة الانتماء الى لبنان، وليس الخروج (من) أو العودة إلى الدولة، ومن الأصح المطالبة “بعودة “حزب الله الى لبنان.” “لبنانية حزب الله”، طُرحت مراراً على بساط البحث. سبق أن أبديت رأيي بهذا الموضوع في كتابي “متاهات التغيير في زمن الممانعة”، الصادر عن دار سائر المشرق سنة ٢٠٢٣: “من شبه المستحيل تغيير “حزب الله” أو لبننته كما درجنا على القول. أنا أسلّم بدون نقاش، ان أعضاء “حزب الله” هم لبنانيون، لكن كون أعضاء الحزب هم لبنانيون لا يعني حكماً ان الحزب لبناني. فمع توسع العولمة، شهدنا تنظيمات عالميّة، ليس لها جنسيّة معيّنة، لكنّها تضم أعضاء من جنسيات مختلفة موزّعين على عدد من البلدان. “الإخوان المسلمون” أو “داعش” هما من بين هذه التنظيمات. وفي السابق كان لدينا الأمميات الإشتراكيّة، واليوم أصبح لدينا النقابات العالميّة التي تضم أعضاء من كافة البلدان، لكن هويتها عالميّة. لجميع هذه التنظيمات فروع في بلدان أعضائها، لكن هذه الفروع لا تكتسب هويّة بلدها بل تحافظ على هويّتها العالميّة.
“حزب الله” لا ينكر ارتباطه بإيران، عقائديّاً وماليّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، وإيران لا تتوقّف عن التصريح انها تسيطر على لبنان من خلال “حزب الله”، كما انها تسيطر على العراق وسوريا واليمن من خلال تنظيمات أخرى. إذاً، إن “حزب الله” ينتمي عملياً الى تنظيم إقليمي ويشكّل هو أحد فروعه. وبالتالي إن “حزب الله” كحزب، ليس لبنانيّاً، رغم ان أعضاءه لبنانيون، وسيكون عليه الإستقلال عن هذه الهيكلية التنظيميّة الإيرانيّة إذا أراد ان يتلبنن.
يمكن “لحزب الله” أن يجيب أنه رغم تبعيته العقائديّة والماليّة والسياسيّة والفكريّة لإيران، فهو حزب لبناني مستقل، وهذا ما يجهد نصرالله لإفهامنا إياه في خطبه. وهنا يواجه “الحزب” تحدّيات أكبر. التحدّي الأول هو قدرته على التحوّل من حزب عسكري الى حزب سياسي، فليس في الدستور والقوانين اللبنانيّة ما يسمى بالحزب العسكري. الأحزاب السياسيّة الأخرى، تحوّلت أثناء الحرب الى ميليشيات، لكنها استعادت صفتها السياسيّة بعد الحرب، حتى ولو احتفظت ببعض الأسلحة. غير ان “حزب الله” هو أساساً حزب عسكري ولم يبارح بعد هذه الصفة، حتى لو ميّز البعض بين جناحه السياسي وجناحه العسكري. والتحدّي الثاني هو قدرته على التحوّل من حزب ديني الى حزب مدني. صحيح ان الأحزاب السياسيّة الأخرى معظمها طائفي في تركيبتها، لكنها ليست دينيّة في عقيدتها ولا في ممارساتها، بل مدنيّة في الإجمال. ليس هناك مكان في نظام ديمقراطي برلماني، كما يُعرِّف الدستور النظام السياسي اللبناني، لما يسمّى بالحزب الديني.
وهكذا نصل الى التحدّي الثالث، وهو أن “حزب الله” في عقيدته السياسيّة يتبع نظام ولاية الفقيه الذي يستتبع النظام الديمقراطي البرلماني ويضعه في خدمته وتحت أمرته. فكيف تريدونه ان يتلبنن في نظام لبناني لا يستطيع أن يعترف بشرعيته الدستورية؟” وأضيف من خارج نص الكتاب، وبما يتعلق مباشرة بموضوعنا، كيف تريدونه أن “يعود إلى الدولة” القائمة على هذا النوع من النظام الذي لا يعترف به؟
٢- اشكالية “لبنانية” حزب الله، تحيلنا تلقائياً الى اشكالية انتماء الشيعة اللبنانيين إلى لبنان، بسبب التأييد الواسع لـ”حزب الله” في البيئة الشيعية.
لفهم علاقة الشيعة بـ”حزب الله”، يجب التنبه الى ان هذا الحزب لم يكن، في نشأته، تعبيراً سياسياً تنظيمياً عن اتجاهات سياسية شعبية واسعة في البيئة الشيعية، بل جرى “اسقاطه” بمظلة إيرانية بالتعاون مع مجموعة شيعية لبنانية انفصلت بمعظمها عن حركة امل. بمعنى آخر إن البيئة الشيعية لم تفرز تلقائياً حالة سياسية اسمها “حزب الله”، وقد دلت دراسات عديدة، من بينها كتاب وضاح شرارة “دولة حزب الله”، على ان الاتجاهات الشعبية، المهنية والثقافية والسياسية، داخل البيئة الشيعية، قبل “إسقاط” “حزب الله” عليها، كانت شبه معاكسة للاتجاهات التي رست عليها بعد توسع نفوذ الحزب، وكانت تصب في المزيد من الانخراط في النسيج اللبناني العام. وكأنه حصل، بعد نشأة “حزب الله”، نوعاً من “التنشئة” المضادة للمسار الاجتماعي الذي كان في طور النمو، “تنشئة” استندت الى ثلاث أدوات جد فاعلة: الدين والمال والسلاح. ومسار هذه التنشئة لم يكن سلمياً، فقد اصطدم عسكرياً بمن يمثل فريقاً شيعياً وازناً مثل” حركة امل”، أو من يستقطب عدداً كبيراً من الشيعة، مثل “الحزب الشيوعي اللبناني”.
لذلك يجب النظر الى الاتجاهات في البيئة الشيعية، كتقاطع تاريخي بين مسارين متناقضين. لكن الطائفة الشيعية لم تنفرد في اختبار هذا التناقض، بل ان الطوائف الأخرى عرفت أيضاً ما يشبه التأرجح بين اللبننة وانتماءات أخرى، خاصة خلال حرب ١٩٧٥ وما بعدها، ولو أن هذا التناقض لم يكن بهذه الحدة. ففيما شهدت البيئة الشيعية نمو حالة مذهبية ايرانية ما فوق- لبنانية، انكفأت الطائفتان المسيحية والدرزية الى حالة طائفية ما دون- لبنانية، على شكل كانتونات، قبل أن تعودا وتتصالحان مع لبنانيتهما؛ في حين انكفأت الطائفة السنية بدورها من الحالة العروبية الى الحالة اللبنانية، تحت شعار “لبنان اولا”، بعد اغتيال رفيق الحريري والاصطدام بالنظام السوري.
٣- يقع في تناقض حاد من ينتقد “دويلة حزب الله” ويطالبه بـ”العودة الى الدولة”، ويصف في الوقت نفسه الحكم الذي كان قائماً قبل الحرب الأخيرة بـ”الشيعية السياسية”. فكيف يعود إلى الدولة من يُفترض انه كان يحكمها من خلال “الشيعية السياسية”؟
المشكلة في تعبير “الشيعية السياسية” هي انه يحاول أن يشبّه النفوذ الشيعي الحالي بالنفوذ الماروني عند نشوء الكيان، والذي سُمّي في حينه بالـ”المارونية السياسية”. فـ”المارونية السياسية”، كما يشير التعبير وكما دلّت التجربة، حكمت “سياسياً” من خلال المؤسسات السياسية الدستورية، فيما حكم الثنائي الشيعي” عسكرياً، من خلال تعطيل المؤسسات السياسية الدستورية، ربما بهدف انتظار الوقت المناسب لترجمة نفوذه العسكري سياسياً، عبر تعديل الدستور. لذلك افضّل تعبير “الشيعية العسكرية” لوصف نفوذ “الثنائي الشيعي” وطريقة حكمه. وبين “المارونية السياسية” و”الشيعية العسكرية”، حكمت “السنية الإقتصادية”، التي لم تستطع هي أيضاً الارتقاء إلى المرتبة السياسية بسبب هيمنة النظام السوري على الحكم في هذه الفترة، ومحاولاته الدائمة لتقليص نفوذ رفيق الحريري، وعدم السماح له بترجمة نفوذه الاقتصادي على المستوى السياسي بشكل كامل.
٤- قوبل الكلام عن سقوط “الشيعية السياسية”، بالدعوة الى عدم “عزل الشيعة”، في طروحات بدأت تظهر حول مرحلة “ما بعد “حزب الله”. عدا التسرع بالكلام عن الإنهزام الكامل لـ”حزب الله”، (فهذا قد يعني عملياً- نظرا لحجم الإجرام الاسرائيلي وتغلغل الحزب في كامل النسيج الشيعي- القضاء على الطائفة الشيعية، بشرا وحجرا،) فإن التخوف من “عزل الشيعة” لا يأخذ بعين الاعتبار واقع “إنعزال الثنائي الشيعي” المطلوب معالجته قبل التفكير بـ”عزل الشيعة”.
انعزال “الثنائي الشيعي” ظهر جلياً خلال السنوات الأخيرة وخاصة ابتداء من سنة ٢٠١٩: انعزاله من خلال تصديه لانتفاضة ١٧ تشرين بشعار مذهبي “شيعة شيعة شيعة”؛ انعزاله من خلال سحب “الشيعة” من بين مجموعة أهالي ضحايا انفجار المرفأ؛ انعزاله من خلال قيادة عملية تعطيل الانتخابات الرئاسية؛ وأخيرا انعزاله من خلال إعلان “حرب اسناد غزة” منفرداً.
التصدي لفكرة “عزل الشيعة” بعد إضعاف “حزب الله” عسكرياً، يجب أن تترافق مع قرار “الثنائي الشيعي” الخروج من العزلة التي أدخل نفسه فيها. وهذا لن يكون، بدون التأكيد من قبل معارضي “الثنائي”، أولا على موقع الطائفة الشيعية الثابت في النظام السياسي الذي أرساه اتفاق الطائف، وثانياً على تطوير القدرات العسكرية للدولة بحيث تحافظ فعلياً على امن وسلامة اللبنانيين بشكل عام، وأمن وسلامة سكان الجنوب بشكل خاص، بوجه الاعتداءات الاسرائيلية، وذلك بموازاة حصر استخدام السلاح بالقوى الشرعية اللبنانية، آخذين بعين الاعتبار اللاتوازن الفاضح للقوى العسكرية لصالح اسرائيل، لا بد أن يترافق رفع القدرات العسكرية اللبنانية، مع مبادرات دبلوماسية عقلانية تقي البلاد من الأطماع الإسرائيلية.
٥- الملاحظات الأربع أعلاه، تضع مطالبة “حزب الله” بالعودة الى الدولة” في إطارها الأوسع، الأكثر تعقيداً مما يعتقد البعض. أريد ان أضيف اليها عاملان استجدا بعد استفحال الحرب. فإذا كان مطلب “عودة “حزب الله” الى الدولة” قد برز مع بداية مؤشرات النكبة من نزوح ودمار، غير أن تطور نتائج الحرب، على مستوى النزوح وتدمير القرى والبلدات الحدودية، كما على مستوى اغتيال قيادات “حزب الله”، طرح معطيات جديدة لا يمكن تجاوزها. أتوقف عند معطيين رئيسيين من بينها.
المعطى الأول سيطرة إيران الكاملة على قيادة “حزب الله” وصدور مواقف مستهترة بسيادة لبنان عن مسؤولين إيرانيين بارزين. المعطى الثاني، تزايد المخاوف من استحالة عودة النازحين الى بعض بلدات وقرى الجنوب، التي تدمرها إسرائيل بالكامل، والمرشحة للتزايد مع انتقال العدو الى المرحلة الثانية من العدوان البري. كل ذلك بموازاة عودة الترويج الاسرائيلي لمشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يشمل جزءاً من لبنان.
تجاه هذين المعطيين، تصبح عودة “حزب الله” الى لبنان وتالياً الى الدولة، مشروطة بعودة إيران الى إيران من جهة، وعودة النازحين الى بيوتهم من جهة ثانية. مما يضع المعارضين لـ”حزب الله” وجها لوجه امام الاحتلالين الاسرائيلي والايراني. ولا تستقيم أي حركة سيادية استقلالية بدون هذه المواجهة المزدوجة، على صعوبتها. والا دخلنا فعلياً في مرحلة تفكك الدولة المركزية وتعزيز الطروحات اللامركزية على أشكالها. مما يتلاقى ربما مع مشاريع ترامب- نتنياهو لكامل منطقة الشرق الأوسط تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد”، زائد “صفقة القرن”. وليس صدفة، على الارجح، تعيين ترامب تاجر العقارات والخبير في البيع والشراء، مسؤولا عن “السلام” في الشرق الأوسط.
للأسف لا مؤشرات إيجابية حتى الآن حول نية “حزب الله” العودة إلى لبنان وإلى الدولة. على العكس من ذلك تماماً، فنعيم قاسم وعدنا بأن الحزب سيعود أقوى “في الداخل”، وصحيفة “الأخبار” الناطقة باسم الحزب تهددنا كل يوم بتفكك مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسة الجيش اللبناني.