١٧ تشرين… من مأساة الجمهورية الى ملهاة الحكم

الغدر بجماهير ١٧ تشرين والهدر بفرَص التصحيح... في البلد الحزين

بقلم مهى الدمشقي علم الدين

على مشهدية قصر بعبدا و الطريق المفضية إليه صباح الأحد الفائت، وعلى وقع الخواء الصاخب الذي لفّ المكان من لحظة خروج شاغله حتى تواري رتل السيارات السود والبدلات السوداء وحمَلة الأعلام الحزبية، لم يحضرني سوى مناداة جبران خليل جبران : “يا بني أمي… الحق الحق أقول لكم… مات أهلي هل تسمعون ؟!”.

كم صدق جبران حين نادى “بني أمه”.

فمن يكون “بنو أمه” ومن تكون امّه ؟!

مبادئ علوم انسياب الطاقة تفيدنا عن أمهاتنا الثلاث : أمنا الوالدة، امنا الارض، امنا الكلمة.

ثالوث طاقة تكوينية بنيوية أولى بنِسب ومقادير، تحفظ توازن الحياة، تحكمها الذات the Self، والدماغ الاوسط limbic brain، مؤنثة الشحنة الحياتية “YIN” التي تتجه من اسفل الى اعلى وتتمدد افقياً، وهي تولّد وتحتضن بالفطرة، وترعى الـ “نحن” بالقدرة ومن مفاعيلها التجذّر في المكان والوطن والعائلة وفي البيئة الطبيعية والاجتماعية الحاضنة…على مستوى العيش الكثيف الملموس، وتنمّي قيم الحب والمشاعر الانسانية السامية والتعاطف والتكافل والتكامل المجتمعي، والثقة بالحياة، وتحفّز على الإبداع والترفّع والروحانية.

على مستوى العيش اللطيف المحسوس “أهلي الفلاحون، البنّاؤون… وطني لبنان… وطني الإنسان”. يكمل الفيلسوف جبران الذي يستوقفنا كلامه اليوم عمن لا زال يحمل صفات الفلاح والبناّء، والذين يكونون ذكوراً وإناثاً أبناءاً وبناتِ أصليين “للأم الأصل” اهل الخصب والنضج والعطاء والتضحية والتسامح والوفاء، الذين يعمّرون الأرض والأوطان في مقابل “بني الأم”.

يخطر لنا ان نتسائل عن “بني الأب” ومن يكونون يا ترى ؟

ولماذا لا يؤتَى على ذكره ؟

نفس مبادئ علوم انسياب الطاقة تفيدنا بأن الطاقة المذكّرة “YANG” هي طاقة عامودية اندفاعية، مضبوطة ايضاً بنسب ومقادير يتوجب تكاملها لا تنافرها في تحقيق توازن العيش مع الطاقة المؤنثة.

وُجهة الطاقة المذكرة من أعلى الى اسفل تحكمها الـ ” أنا ” the Ego والقشرة الدماغية neo-cortex، وهي طاقة اقتحامية تنافسية تتمدد عامودياً و تصل عند الإختلال حدّ إلغاء الآخر، وتتعاطى بقوة الأنانية والإملاء والسطوة، ترعى وتنمي آليات الكسب والاستحواذ والإخضاع والتسلط. وإخضاع ثروات الطبيعة وكائناتها الحية بما يوافق حاجاتها البيولوجية والمادية، وكذلك أطماعها ورغباتها وانفعالاتها وحسب، وتبرّرها بعمليات حسابية ولوجستية بحتة، بعيداً عن أي اعتبارات شعورية انسانية.

ايُّ صفات يحملها من غلبت عليهم هذه الطاقة وجنحت بهم شيئاً فشيئاً الى التطرف :

من الثقة بالنفس الى الاعتداد بالنفس والعدائية، فالى اعتماد القسوة والقمع لإسكات الآخر المختلف وعسكرة المجتمعات حتى تبرير العنف والقتل تحت مسميات المقدّس والمدنّس…

وهو ما نراه ونعيشه في النظام الأبوي – الطائفي – الذكوري، القائم، خادم مصالح الرأسمالية المفترسة بشبكة شركاتها المُعولَمة، العابرة للقارات، والمتحالفة مع أنظمة الحكم والتحاصص النفعي والطائفي القائم عندنا بشكل أكثر نفوراً وحدةً عما في باقي الدول المحيطة بنا، حيث يتألف اقطاب السلطة الذكورية ويحمي احدهم الآخر: اهل المال والسلاح والعقائد الحزبية، فنراهم مستغرقين في حال من الضمور الروحي والخمول والترهّل الذهني، وانعدام الحس الوطني الوقّاد، يزايدون على بعض في تفلّتهم من المسؤولية الاخلاقية والوطنية التي يمليها عليهم موقعهم “القيادي” في استباق مشكلات العيش، والتصدي لازماته المستجدّة، فإذا بهم يتفننون ويتمادون في افتعالها أو تزكيتها تيئيساً وتهجيراً للقوى الشابة الكفوءة والتي تطالب وتريد المشاركة والمساهمة بإحداث نقلة تحديثية نوعية مطلوبة تواكب الزمن الرقمي الذي لن يرحم الشعوب المتخلفة عن ركبه، وذلك اليوم قبل الغد لمن يأبى البقاء عالقاً في هذا الجحيم المتأجج لهيبه.

فيما هم مترفون لا يثنيهم عن غيّهم حالة انعدام الوزن والتوازن على كل المستويات في عيون السواد الأعظم من الشعب في الداخل والخارج… فمن التوازن تنبثق عادةً أكثر الامكانيات والحوافز، تماماً كنِسبة الشحنة الكهربائية اللازمة لقدح البرق فيَليه الرعد لخلق دورة المطر ودورة الحياة وضمان الاستمرار والاستقرار، الفردي والجماعي والتطور الفكري والحضاري.

ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فهو محصلة ثلاثة أبعاد وجودية متساوية : جسد – فكر – وروح…

يكتمل مع توازنها أو ينكسر وفق تآلف وتكامل مكونات الطاقتين اللتين تحكمان كل التكوين اللامتناهي، في دوائره الصغرى بدءاً من نواة الخلية البيولوجية وأنظمة الجسم والفرد، وفي دوائره الكبرى من نواة الاسرة، الخلية المجتمعية الاولى، الى العائلة حتى المجموعات البشرية المركبة التي تشكل الوطن.

عودة الى مشهدية الأحد وظواهرها الاجتماعية – السياسية، وقراءاتها المتعددة، نقارنها بمشهدية ثورة ١٧ تشرين مستعيدين تجلياتها الميدانية من ساحة الشهداء الى كل ساحات الثورة في مدن ومناطق لبنان.

و لنقارن طاقة الثوار في ثورتهم الرائدة، السلمية التكافلية الحرة، الواعية، وفي مطالبها الوطنية، وبرنامجها النهضوي التنموي الإنقاذي، المسؤول والرشيد، لنقارنها بطاقة القوى الأمنية الرسمية والقوى الحزبية التي ناصبتهم العداء، فصمّت آذانها عن مطالبهم المحقة باحقاق دولة المواطنية العادلة الراعية للحقوق المدنية المنصفة للجميع، وصبّت عنفها ونارها وحقدها ومكبوتاتها المزمنة عليهم، فيما أمعنت سلطات العهد البائن المقنّعة والظاهرة، في تجويعهم وتطويعهم وتهجيرهم..

لماذا ؟

لأن تلك القوى تكتفي بالدور التقليدي – الذكوري المحنط والمرسوم في تربية القطيع الممنهجة، لا سيما في “التخندق” الحزبي والاصطفاف المذهبي :

فهم يكونون تارةً حفارين وحراساً للقبور، وطوراً حُماةً للقصور.

القصور المشيدّة لزعمائهم وكبار مموليهم من مال التحاصص والصفقات الحرام، والقصور الأخلاقي والمعنوي، الوطني والوجداني، في عدم بذل قصارى الجهد والاستعداد للتضحية بالمصلحة الخاصة وبالذات، لتفعيل الادارة النزيهة وإعلاء صوت الضمير والعدل والقانون، ووضع الشخص الاكفأ في الوظيفة الأنسب لتحقيق التنمية والرفاه والأمن المجتمعي تلبيةً لإرادة وحق ومطلب الشعب كله بالعيش بكرامة.. القصور والتقصير عن استنباط الحلول الخلاقة والمتاحة لمشاكل عيشه الحادة،المستجدة كما المزمنة والتي تمّ دفع اثمان مستحقاتها منذ عقود حتى الآن، مئات ملايين الدولارات، ديون متراكمة تلتف كالأفعى السامة والخانقة حول أعناقنا نحن وأبنائنا وأجيالنا القادمة، ومعها كل احلامنا المتبخّرة باننا انجزنا مرحلةّ من إعادة الإعمار.

فإذا بنفس الطغمة تعمد الى طمس ارتكاباتها تحت مظلة العهد السلطوي البائن، بكوارث أعتى وجرائم ادهى، وتتمادى في التجويع والتركيع بحق الجماهير التغييرية، بهدف التطويع من أجل التطبيع… فمن تفجير المرفأ مروراً بنهب مدخرات الناس وتفاقم ازمات الغذاء والدواء وكافة الخدمات الى ترسيم تمّمنذ ايام، في آخر العهد المشؤوم، للحدود البحرية مع “عدو الأمس حليف الغد على ما يتبدى” الذي مللنا اسطوانة تخوين القوى الممسكة والمسيّرة للحكم فيه، لكل من يذكر حتى اسمه وانكشفت المزايدات وكل المزايدين.

وهكذا بشحطة قلم وادعاءات بانتصار وهمي جديد، تستغبي عقول العاقلين والعارفين، تمّ التفريط بحقنا وحق اجيال كاملة، وتبديد ثروات مائية أكيدة ونفط – غازية موعودة أو مأمولة، يحرمنا ويحرمهم منها القيَمون على البلد، العابثون بصلف ومكابرة ومغالاة بحقوق وكرامة شعب صابر صامد عنيد.

ثمة من يسائل، وسيكون لا محالة ثمة من يحاسب، انه التحدي الاكبر بوجه من تمّ النفخ والنفث فيهم فتعملقوا، انه التحدي الاكبر من قِبَل عمالقة استعصى العمل على تقزيمهم… لأنهم حصرياً وبحق من “بني أمي”.

ولهم حصرياً استمرارية الفعالية اللبنانية الحقوقية والمواطنية، ولهم سوف يكون السطوع والحضور والكلمة الفصل بين الباطل والحق، فللحق جولة قريبة موعودة.

ولن يخبو نورهم مهما كابرت قوى الظلام والظلم والعبث…

فيا بني أمي
أنتم
انتن
ونحن
صناع الغد بعزمنا وبناة لبنان الغد بإيماننا به
وغد لنا يوم آخَر !!

اخترنا لك