بقلم غسان صليبي
الحرب تكشف المستور ولا تراوغ. تضعنا أمام حقائق وطننا المرّة والمؤلمة التي حاولنا التغاضي عنها أيام السلم. تنفجر بوجهنا كما تنفجر القنبلة، لكن بدل أن تعمينا تجعلنا نبصر، ولو بعيون دامعة. كأنها تبدّد بقساوة لا تُحتمل، أوهاماً وثوابت على حدّ سواء، رغم لجوء البعض منا إلى الإنكار، كوسيلة دفاع نفسية، تقي الإنسان من خطر انهيار كامل لمعتقداته التي توفر له شيئاً من الاستقرار النفسي.
“حرب الإسناد” وما نتج منها من قتلى ونزوح وتدمير، فاقت كل التوقعات، حتى المتشائمة منها، وجعلتنا نشهد على ذلّنا وهشاشتنا وتدني قيمتنا الإنسانية كشعب، الموازية لتدني قيمة وطننا في لعبة الأمم الإقليمية والدولية.
وإذ تحلّ علينا ذكرى الاستقلال في عزّ الحرب، ننظر إلى واقعنا كما ينتصب أمامنا بوضوح كلّي: تعدٍّ إسرائيلي كامل، برّي وجوّي وبحري، على سيادة لبنان، واستئثار إيراني كامل بقرار الحرب والسلم في لبنان، وبمسار المفاوضات. لا توجد مناسبة أفضل للتأمل بأحوال استقلالنا وبمصيرنا. فالمعادلة واضحة: إما الاستقلال أو الموت على أرضنا المستباحة.
الحكاية المأسوية تُستعاد كل عقدين من الزمن، ولو بأبطال جدد أو قدامى. وحدهم الضحايا لا يتغيرون. وحده اللبناني من يموت… سعيداً… من أجل الآخرين. إنها الثابتة شبه الوحيدة في أوضاعنا الوطنية المتقلبة تحت وطأة العنف الشديد.
سنة ٢٠١٧ نشرت مقالاً في النهار بعنوان “ثنائيات قاتلة تلاحقنا كاللعنة”، ومما جاء فيه:
“مجدداً، يجري تجييشنا مع هذا المحور أو ذاك، ضدّ هذا المحور أو ذاك. البارحة كان السؤال، انتداب عربي أم فرنسي؟ وبعده أصبح السؤال، احتلال إسرائيلي أم سوري؟ واليوم يريدوننا أن نلتحق بإيران أو بالسعودية.
ثنائيات قاتلة تلاحقنا كاللعنة منذ ولادتنا في هذه البلاد، تحتل عقلنا وقلبنا قبل أن تستبيح أرضنا وسماءنا.
القوى المسيطرة في الداخل، يميناً ويساراً، أحزاب ومذاهب وعقائد، ومنذ نشأة الكيان، استتبعت نفسها لهذه الثنائيات، واختصرت خياراتنا بهذه اللعنة أو تلك، عن طريق الضغط علينا، بالمال والعنف والمؤسسات الدستورية وغير الدستورية، والضجيج الإعلامي والأيديولوجي.
لطالما حاصرونا في إطار هذه الثنائيات، التي لم تجلب لنا إلّا الموت والدمار والهجرة …..”
اليوم جاء دور ثنائية إيران – أميركا بواسطة إسرائيل، وهم يدعوننا على وقع الصواريخ التي تتساقط على رؤوس شعبنا، إلى التصفيق والزعيق لهذه اللعنة أو تلك.
وفيما نحن نصفّق لتبعيتنا المشينة، إذا بعيد الاستقلال يداهمنا ويضبطنا بالجرم المشهود، ويطرح علينا السؤال الوجودي: ألم تقل لكم الحرب بوضوح إن عليكم الاختيار بين الموت والاستقلال؟
يستدعي سؤال الاستقلال هذه السنة التأملات التالية:
١- مع نشوء الكيان اللبناني، تنبّه المؤسسون أن لا حياة لهذا الكيان إلّا من خلال لاءين: لا للغرب ولا للشرق. وهذا ما سُمّي بـ”الميثاق الوطني”، الذي لا علاقة له بالتوازن الطائفي كما يكرر البعض، بل بهذه الاستقلالية المطلوبة تجاه الشرق والغرب. وقد دلّت التجربة إلى أن كل انحياز لهذه الجهة أو تلك أو للاثنين معاً في حالة الانقسام الوطني، يفجّر الكيان.
اعتبر جورج نقاش في مقال شهير له في جريدة “الاوريون” سنة ١٩٣٩، أن “سلبيتين لا تصنعان وطناً”، Deux negations ne font pas une nation. على أساس أن لا وطن من دون بلورة ما يتفق عليه الشعب وليس فقط ما يرفضه. وهذا صحيح. لكن الأصح أنه من دون هاتين السلبيتين لا وطن أيضاً، ولا قدرة على بناء ما يجمع بين الطرفين رافعي شعار الـ”لا” بهذا الاتجاه أو ذاك.
الوطن شرطه “الميثاق الوطني”، والميثاق الوطني شرطه الاستقلال. والبعض يفضّل أن يسمّيه “الحياد”.
٢- مع نشوء إسرائيل واحتلالها لفلسطين، أصبحت فكرة “الحياد”، في سياق الصراع العربي- الإسرائيلي، تعني الانحياز إلى الأقوى، والتنكّر للظلم.
في مرحلة “الحياد”، لكن أيضاً في ظل اتفاق الهدنة الذي لا يعني السلام مع إسرائيل، بقي لبنان بمنأى عن الحروب الإسرائيلية – العربية، وعن الحروب العربية- العربية، وحافظ على وحدته وعلى ازدهاره. في مراحل الانحياز، تارة للمقاومة الفلسطينية وطوراً لسوريا، واليوم لإيران، دفع لبنان وشعبه الثمن الأغلى بالأرواح والممتلكات، لا سيما أن الانحياز ترافق دوماً مع الانقسام الوطني والتبعية للطرف الخارجي الذي انحاز إليه، ودفع الثمن نيابة عنه. وكأنّ الانحياز في بلد صغير مثل لبنان بتركيبته الطائفية، يعني حكماً الالتحاق والوقوع في التبعية، وبالتالي فقدان الاستقلال. بهذا المعنى يصبح الانحياز مرادفاً للتبعية، والحياد مرادفاً للإستقلال.
٣- الاستتباع يتمّ عن طريق مدّ الطرف التابع بالمال والسلاح، وطبعاً بما يبرّر سطوة المال والسلاح، وعبرهما التبعية، أي بالإيديولوجيا او العقيدة.
لجم نزعة التبعية وبالتالي الحفاظ على الاستقلال، يفترضان حصرية السلاح بيد الدولة وتطبيق القوانين على تدفق المال، وضبط الايديولوجيات والعقائد في إطار المبادئ والقيم الدستورية التي تقوم عليها أسس الوطن ويجمع عليها اللبنانيون، من خلال مؤسساتهم الدستورية والديموقراطية.
٤- لكن لا استقلال من دون ثقافة الحرية والديموقراطية، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعات المكوّنة للكيان اللبناني. أي أن يقتنع الشعب اللبناني بحقه وبحريته في تكوين معتقداته الخاصة واختيار قيمه وتقرير مصيره، عن طريق الممارسة الديموقراطية التي تتطلب جهداً ووقتاً ورعاية.
وثقافة الحرية والديموقراطية، نكتسبها في العائلة والمدرسة والعمل والعلاقات المدنية والسياسية.
٥- سبق أن أشرت إلى أنه لربما لم تكن صدفة أن يسبق عيد ميلاد السيدة فيروز ذكرى الاستقلال بيوم واحد، فلن يكون استقلال من دون أن نغني مع فيروز “بحبك يا لبنان يا وطني”. فهذا الوطن يحتاج لمن يحبه، وشرط الحب هو الإعتراف به كما هو وتقبّله والكف عن التشكيك بشرعيته. والحب لا يمن