بقلم د. كولشان يوسف صغلام
في تطور بالغ الأهمية في سياق العدوان الإسرائيلي على غزة، أصدرت محكمة الجنايات الدولية قرارًا بالقبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غلانت. يأتي هذا القرار في وقت حرج حيث تواصل الانتهاكات بحق الفلسطينيين، مما يثير العديد من الأسئلة حول العدالة الدولية وأهمية هذا القرار في إعادة الثقة بمنظومة حقوق الإنسان. ومع ذلك، هل يكفي هذا القرار لتغيير الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية؟ وهل يمثل بداية جديدة للمحاسبة الدولية للمسؤولين عن جرائم الحرب؟
إنه من الضروري التأكيد على أن نتنياهو وغلانت يجب أن يحاكما عن الجرائم التي ارتكباها ضد الإنسانية، وهي تصنف ضمن “جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية”، وفقًا للقانون الدولي الإنساني. إذ إن محكمة الجنايات الدولية كانت قد أصدرت قرارات سابقة بحق شخصيات أخرى متورطة في جرائم مشابهة، لكنها اليوم تتخذ خطوة غير مسبوقة بحق قيادات إسرائيلية، مما يعكس تحولًا في كيفية محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة.
من المهم التمييز بين محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية، حيث أن الأولى تركز على محاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم دولية مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، بينما الثانية تعنى بالقضايا القانونية بين الدول. وفي هذا السياق، كانت دولة جنوب أفريقيا قد قدمت شكوى ضد إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان. لكن قرار محكمة الجنايات الدولية بالقبض على نتنياهو وغلانت يمثل خطوة عملية ومباشرة نحو محاسبة الأفراد المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، وهو ما يعكس تحولًا حقيقيًا في كيفية التعامل مع الجرائم الدولية المرتكبة ضد الأفراد.
أحقية القضية الفلسطينية
تعتبر القضية الفلسطينية واحدة من أكبر القضايا الإنسانية في العصر الحديث، حيث يعاني الشعب الفلسطيني من انتهاكات مستمرة لحقوقه الأساسية. إن سياسة الاحتلال الإسرائيلي وما يرافقها من تدمير ممنهج للبنية التحتية والمنازل وتهجير السكان قد أسهمت في تفاقم الأوضاع الإنسانية على الأرض، مما يجعل القضية الفلسطينية واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا في محافل العالم.
إن قرار محكمة الجنايات الدولية قد يكون بمثابة دعم معنوي كبير للفلسطينيين، ويعزز من موقفهم في السعي نحو العدالة والمساواة. كما أنه يبعث برسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أن محاسبة القادة المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان ليست أمرًا يمكن تجاهله، مهما كانت هيبة الدولة التي يقودونها.
أهمية القرار في ظل الصمت الدولي
على الرغم من تقارير موثقة من منظمات دولية حول الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، فإن الصمت الدولي كان سائدًا لفترات طويلة. لقد كانت محاولات المجتمع الدولي لإيجاد حلول دبلوماسية فاعلة محاطة بالكثير من التردد، حيث أظهرت القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، دعمًا متواصلًا لإسرائيل. ومع ذلك، فإن قرار محكمة الجنايات الدولية بالقبض على نتنياهو وغلانت يمثل نقطة تحول في هذا السياق، ونأمل أن يكون المجتمع الدولي قد بدأ يتحرك نحو محاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية. هل يمكن أن يكون هذا القرار بداية لمرحلة جديدة من الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية؟
هل يمكن إعادة الثقة بمنظومة حقوق الإنسان؟
لقد شهدت السنوات الأخيرة تراجعًا في الثقة بمنظومة حقوق الإنسان، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. فقد تسبب الصمت الدولي تجاه المجازر التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في تعميق الإحباط، وأدى إلى استهجان الكثيرين من عدم محاسبة إسرائيل على الجرائم المرتكبة. إن قرار المحكمة يمثل خطوة نحو إعادة الأمل في تحقيق العدالة، لكنه يثير العديد من الأسئلة حول إمكانية متابعة هذا القرار وتفعيله على أرض الواقع. هل ستقوم الدول الأعضاء في اتفاقية روما بخطوات فعالة لتطبيق هذا القرار بشكل فعّال؟ وهل سيؤدي إلى تغيير حقيقي في مواقف الدول الكبرى التي تدعم إسرائيل بشكل غير مشروط؟
تداعيات القرار على المستوى الدولي
يمثل قرار محكمة الجنايات الدولية بالقبض على نتنياهو وغلانت رسالة قوية مفادها أن المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للحقوق الإنسانية لن يكونوا فوق القانون. يمكن أن يؤدي هذا القرار إلى تشكيل ضغوط دولية على إسرائيل، ويدفع بعض الدول إلى إعادة النظر في علاقاتها معها. على سبيل المثال، أيدت العديد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا قرار المحكمة، مما يعكس تحولًا في مواقف بعض الدول التي كانت تدعم إسرائيل بشكل كامل. في الوقت ذاته، قد يواجه هذا القرار معارضة شديدة من دول أخرى، خاصة الولايات المتحدة، التي أظهرت دعمًا مطلقاً لإسرائيل على مختلف الأصعدة.
ربط الوضع في فلسطين بما يحدث في لبنان
من المهم أيضًا أن نلاحظ كيف أن هذه الانتهاكات لا تقتصر فقط على غزة والضفة الغربية، بل تمتد إلى لبنان، حيث تتشابه الجرائم المرتكبة ضد المدنيين. الحرب الممنهجة ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة، والتي تشمل الهجمات الجوية على المستشفيات والمرافق الطبية، والتدمير الشامل للبنية التحتية، تتشابه مع ما يحدث في لبنان. في كلا السياقين، نجد أن هناك استهدافًا للمدنيين، بما في ذلك الصحفيين والمسعفين، القوات الدولية لم تسلم من اجرام إسرائيل حتى إضافة إلى الأضرار الجسيمة التي لحقت بالبيئة، والتدمير الكامل للمواقع التاريخية والثقافية. الحرب في غزة تشهد أيضًا استهدافًا للمباني والمنشآت التي تمثل تراثًا تاريخيًا، وهو ما يثير تساؤلات حول نية إسرائيل في محو الذاكرة الفلسطينية واللبنانية والعربية.
أسئلة مفتوحة.
تثير هذه القضية العديد من الأسئلة : هل سيؤدي قرار المحكمة إلى تغيير حقيقي في السياسات الإسرائيلية؟ هل سيستجيب المجتمع الدولي لدعوات الفلسطينيين للعدالة؟ وكيف يمكن أن يؤثر هذا القرار على مستقبل النزاع في فلسطين ولبنان والمنطقة بشكل عام؟ هل سيشكل بداية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم في مناطق النزاع الأخرى؟
إن قرار محكمة الجنايات الدولية بالقبض على بنيامين نتنياهو وغلانت يأتي متأخرًا، لكنه يحمل في طياته أملًا جديدًا للشعب الفلسطيني واللبناني وكل الشعوب. ورغم أن الطريق لا يزال طويلًا، إلا أن هذه الخطوة تمثل بداية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية. إذا تم استثمار هذا القرار بشكل صحيح، فقد يكون نقطة انطلاق نحو تحقيق السلام والعدالة في المنطقة. في النهاية، تأتي العدالة متأخرة، ولكنها أفضل من ألا تأتي.