بقلم صخر عرب – روائي و كاتب بالعدل
وفقا لمقولات بعض اليساريين والليبراليين وعلماء الاجتماع، فإن لبنان انتقل من مجتمع إقطاعي، اقتصاده إقطاعي وسياسته إقطاعية وثقافته إقطاعية، تقوم على الركيزة الطائفية والمذهبية، وقد اجتاحت الرأسمالية العالمية بلاد الشرق، وتحول إلى بلاد شبه مستعمرة وشبه اقطاعية وشبه رأسمالية وعلى مراحل، يحكمها إقطاع سياسي وديني وأخيرًا وبدءً من العام 1975 والبعض يرجعها لما قبل ذلك بسنوات، ويحكمها الآن إقطاع تجاري ميليشياوي، وديني وطائفي، متوجًا بكومبرادور رأسمالي لا يعترف بالوطن والمواطن، بل يؤمِّن مصالح الدول الرأسمالية الكبرى ومصالح عائلاته.
إن ثورة تشرين أو حركة تشرين واحتجاجاته، هي موجهة ضد هذه الأشكال، بطريقة ما مباشرة أو غير مباشرة، وتحديدا ضد الفساد وهدر المال العام والصفقات المشبوهة لاسيما بقطاع الكهرباء، وضد الهيمنة والفئوية وتقديس وتمجيد رموز الفساد والقمع والتبعية. إنها تختزن وعيًا شعبيًا متراكمًا عند اللبنانيين للانعتاق من تلك الحكومات والأنظمة، بواسطة التحركات الشعبية الديمقراطية والسلمية. فهل بالإمكان أن نطلق عليها صفة الثورة الديمقراطية، الثورة الاجتماعية والوطنية أو حتى نصنفها ضمن تسمية الديمقراطية الوطنية أو الديمقراطية الجديدة؟ كالتي تكلم عنها ماو تسي تونغ، أو كتلك التحركات الجماهيرية التي اجتاحت أوروبا الشرقية ضد شمولية الحزب والنظام هناك، وسُميت بالربيع وبأسماء الزهور لسلميتها ونزعتها الإنسانية، أو نكون مبالغين في ذلك ؟
إن كثيرا من القوى والأحزاب القديمة والجديدة وعلى مدى عقود طويلة ومراحل متعددة أطلقت على نفسها تسمية الوطنية والديمقراطية معا مثل ” حزب الوطنيين الأحرار” وسواه وتسميات الديمقراطية، الحرية، الوطنية، اللبنانية الخ. أم هل أن ما جرى بتاريخ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 هو ثورة من أساسه؟ أو مجرد احتجاجات سرعان ما تنتهي؟ وهل أن تلك الثورة قد انتهت فعلا ؟
لو عدنا قليلا للوراء، لأيام الثورة الفرنسية الديمقراطية، وما تلاها، وثم بعد نشوب الحرب العالمية الأولى المسماة “الاستعمارية، أو اللصوصية، ” حسبما يصفها البعض ، وقيام أول نظام اشتراكي من نوعه في العالم في روسيا، بتسمية الاتحاد السوفياتي، واندلاع الحرب العالمية الثانية، ونشوء المعسكر الاشتراكي تاليًا، وتحرر واستفلال بلدان العالم الثالث من الاستعمار الغربي والانتداب سلمًا أو بالكفاح المسلح أو الاحتجاجات ولبنان منها، وقيام الحرب الباردة فترة من الزمن، لتنتهي بهزيمة الأفكار الكلية وفشل الأحزاب الشيوعية والاتحاد السوفياتي، لغياب الحرية وعدم تطبيق قِيم ومبادئ العدالة والمساواة التي نودي بها.
لقد تحررت جميع بلاد آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ما عدا فلسطين بشقيها المغتصب عام 1948 والمحتل عام 1967، ولو أن تلك البلاد بأكثرها لم تحقق مبدأ العدالة والمساواة التي لا تنفصل عن الحرية، وحتى الحرية الداخلية بقيت بأغلبيتها غائبة عنها أو مغيبة. عدا عن استمرار التبعية للخارج سياسيا واقتصاديا بأشكال عديدة.
إن نضالنا لحرية بلادنا واستقلالها يعود لزمن بعيد، لأيام النضال ضد الدولة التركية العثمانية، ولأيام الثورة العربية الكبرى، وللاحتجاج والرفض المستمر للانتداب والاستعمار، سيما الفرنسي والبريطاني والإيطالي والاسباني، ولرفض المشروع الصهيوني بإقامة كيان يهودي في فلسطين على حساب شعبها. وذلك الصراع المرير مع الانتداب والصهيونية والحروب الأربعة مع إسرائيل، واجتياحات إسرائيل للبنان الثلاثة 1972، 1978، 1982، وغيرها الكثير والذي جرّ دمارا وخرابا لا يزال أثره لليوم، وكذلك التدخلات بالشأن الداخلي من الصديق والشقيق والقريب والبعيد.
إن قيام وتوسع الحركات المطلبية بفترة الستينات والسبعينات، وبروز تيارات الوعي والليبرالية واليسار الجديد والتقليدي والفكر العلماني، وحركات الاحتجاجات ونضالات الطلاب والمزارعين والعمال وقطاعات واسعة من شرائح المجتمع، وتبلور مفاهيم وطنية وديمقراطية للعمل والكفاح السياسي، قد أُجهضت، وتُوجت بحرب أهلية – خارجية، متعددة الوجوه والأشكال، بدءً من العام 1975 لغاية 1990، وباستمرارها لغاية يومنا هذا بطرق وأشكال متعددة ظاهرة ومستترة مموهة.
لقد جرى تلزيم للبنان للوصاية السورية ردحا من الزمن، ثم أُوكل الأمر للإيراني، أو “ارتهان” البلد بيد النظام الإيراني.
إن اللبنانيين كافة ناضلوا ضد العناصر الرجعية والبالية في الثقافة اللبنانية التي لا تنفصل عن السياسة القديمة والاقتصاد القديم والسياسة القديمة القائمة على الطائفية والمصلحية لأركان النظام، والتبعية للخارج، أو التحالف معه ولو ضد الوطن، وضد المحيط العربي.
في حين أن المطالب الجديدة التي نزل اللبنانيون لأجلها للشارع، في 17 تشرين وقبلها بسنوات، لا بل بعقود لا تنفصل عن فكرة السياسة الجديدة والدولة أو الحكومة الجديدة التي يحلمون بها، ولا تنفصل عن رغبتهم وحلمهم القديم بقيام دولة حرّة سيدة منتمية لأشقائها العرب، ومتطلعة للعالم الحر وللحركات الإنسانية، وذات مؤسسات قوية وعادلة وشفّافة.
بظل حركة الربيع العربي الذي أُجهض بالاحتياط الفاشي للأنظمة المتمثل بالأصوليات والسلفيات الدينية الإرهابية والمتعصبة، وبتقسيم المجتمع طائفيا ومذهبيا، وبالقمع والحرب الشرسة مباشرة ضد الشعوب، عادت تبرز في لبنان رغم كل ذلك حركة شعبية عارمة عبرت عن رغبتها بالإصلاح والتحرر. وقد تعززت في تلك الأثناء النزعة العروبية، فلم تعد تثير عند البعض الريبة والشكّ، وطالت تلك الصحوة مكونات المجتمع من مسلمين ومسيحيين، وكما عند جماهير الأكراد والأرمن وغيرهم، باعتبار العربية إطارا ثقافيا اجتماعيا جامعا ومفيدا. وكما تعززت النزعة السيادية اللبنانية، ووضحت رؤيتها الحقيقية لدى الجميع، وأصبحت تلك المفاهيم جامعة للشعب وراسخة.
لقد تعاطف اللبنانيون مع محيطهم العربي المنتفض وبذات الوقت تأثروا به ، مثلما تأثر العرب بهم. كما بدأ اللبنانيون ينظرون ويفكرون بإقامة صِلات وعلاقات مع العالم الحر بتقدمييه و علمانييه وأحراره ومع كل النزعات الإنسانية كجمعيات البيئة والسلام والحياد وحماية حقوق كل الجماعات والأفراد والمواطن والانسان والحيوان والنبات والطبيعة والتراث، بعيدا عن عسف الحكومات ورغباتها بالسيطرة والهيمنة.
تسلح اللبنانيون بوعي جيد وبنشاط وحيوية طيلة فترة “الثورة” وبحكمة. لقد رأوا ما فعلته أجهزة القمع في الدول الشقيقة والقريبة من حروب وقسوة وبطش، وكانوا يدركون أن النظام عندهم يهيئ لفتنة طائفية ومذهبية جديدة لإنهاء وفرط حركتهم ، كعادته بالتخلص من الاحتجاجات والمطالبات، حتى يستسلم الناس. هم لن ينجروّا هذه المرة لأي من الخطط التي يخطط لها النظام، بل سيتسلحون بالوعي والنزعة السلمية لإفشال خططه، وقد باتوا أكثر وعيا.
إنما هناك أمران أضرا بالتحرك…
نازلة كورونا والحجر الذي رافقها في كافة دول العالم، وأتى ذلك للطبقات الحاكمة على طبق من ذهب. فبقي الناس في بيوتهم تجنبا للاختلاط وحصول العَدوى وان نزل البعض للحراك، وتأخر الحِراك للوراء.
وعملية افشال الثورة من الداخل بواسطة الاتجاه المعروف ” حصان طروادة”، ذلك الفصيل الذي حصر مسؤولية الانهيار والاختلاس بحاكم مصرف لبنان “عميل الأمريكان” لتضليل الناس والتغطية على الطبقة الحاكمة والجماعات السياسية المسيطرة، وكأنه الحاكم بأمره هو، ولا يشتغل لحساب النظام والطبقة التابعة للنظام السوري والإيراني المفوض لهما من الإمبريالية الأميركية والفرنسية والألمانية، وكأن الطبقة الحاكمة نظيفة الكف وطاهرة شريفة، لم تنهب البلد وتهرّب الأموال للغرب، والمواد المدعومة لسورية وتبيعها في السوق السوداء، وكأن مسؤولية العتمة وانهيار العملية ترجع لسياسية المصرف! عجبا…
لا بد من الإشارة بأن النخبة المثقفة الواعية بالكثيرين منها لم تقم بدورها الوطني ولا الاجتماعي أو الفكري، باستثناء قلّة من الأقلام الحرّة والجريئة والنشيطة، ربما خوفا على أنفسهم، أو على شعبهم؟ أو لضعف في الرؤية أو لأسباب غيرها لم يفصحوا عنها وقد لا يفصحون! وكانت جموع الناس أكثر وعيا واخلاصا وشجاعة ممن هم في موقع المسؤولية. لقد تخلوا عن شعبهم بطريقة ما، وعلى الأغلب مشينة ومعيبة، أو مؤسفة…
إن الوعي عند الشعب اللبناني قد خطا خطوات بعيدة بالشعار الذهبي والحكيم والمدوّي “كلن يعني كلن”، وطبعا لا بفعل ومفعول قاعدة 6 و6 مكرر التوافقية بالحكم بين الطوائف، بل بوعي جديد هو أن القيادات كلها مسؤولة عن الكارثة التي حلّت بالبلاد وبسرقة مدخرات الناس وودائعهم، والتفريط بسيادة الوطن ومقدراته…
“كلن يعني كلن” قفزة كبيرة عالية بتطور وعي الناس، ولا عودة للوراء أبدًا.
لقد وُلدت ثورة تشرين من رحم التحركات السابقة ومن عذابات اللبنانيين وشعورهم بالظلم والاجحاف، وسيتعلمون منها دروسًا ومن إخوانهم وباقي الشعوب، وسيتابعونها بطريقة مناسبة، ويستفيدون من تجاربهم، وتجارب غيرهم. هم يرون أن شعوب العالم بأسره تتحرك تطالب بالديمقراطية، وبدولة سيادية وطنية وديمقراطية عادلة. ولن يُخدعوا من جديد.
لقد تظاهروا في 17 تشرين وحلموا، وسيتظاهرون ويناضلون حتمًا ويحققون الحلم.
يوما ما يتحقق ذلك، وربما يكون قريبا…