حزني و”سعادة” الشهيد

بقلم غسان صليبي

أنظر الى صور مقاتلي “حزب الله” الذين استشهدوا، وقد أُرفقت صورة كل واحد منهم بعبارة “الشهيد السعيد”. أنظر إلى جمال وجوههم، وإلى نضارة شبابهم، وأرى السعادة في عيونهم، فينتابني حزن شديد على استشهادهم.

هل من المعقول أن أحزن على شهيد يُقال إنه سعيد؟ أسأل نفسي باضطراب شديد!

أحدّق جيداً في الصور. لا أجد في نظراتهم ما يوحي لي بأنهم كانوا يفتشون عن السعادة في مكان آخر من خلال الاستشهاد. لا حزن ولا كآبة ظاهرة على ملامحهم، بل اعتزاز بالنفس، وربما شعور بالغرور بسبب سلوك فائض القوة الذي مارسه حزبهم.

هل كانوا سعداء لكنهم مع ذلك راحوا يفتشون عن سعادة أكبر في الجنة؟ أسأل الصور لكنها لا تجيبني بقدر ما تحيّرني، أنا الذي اعتدت على تحليلات علم النفس، ولم أفقه يوماً التأويلات الدينية الماورائية.

لا أعتقد بأن الذين ابتكروا حديثاً تعبير “الشهيد السعيد” يخادعون، أو يريدون التكتم على المصيبة التي حلّت بأعضاء “حزب الله” وبيئته، حتى لا يثيروا الغضب عليهم. فمع أنهم لا برهان لديهم بأن الشهيد سعيد فعلاً حيث هو، غير أنهم متأكدون من أن الشهيد اختار الاستشهاد بنفسٍ راضية، وفي سبيل الله، فتراهم لذلك يجزمون بأنه لا بدّ من أن يكون سعيداً.

الذين فقدوا أحد أحبتهم يؤكدون هم أيضاً أنه سعيد، وفي الوقت نفسه تجدهم يبكونه. ولا يفارق الحزن وجوههم فيما هم يتقبلون “التهاني”، ويرددون “فدا صرماية السيد”. لا أعتقد أن بكاءهم هو فقط تعبير عن شوقهم لرؤية إنسان أحبّوه وافتقدوه، ولا بدّ من أن يكون في بكائهم حزن أيضاً على الشهيد وتأثر بالعنف الذي فتك بجسده، وربما تسبّب له بآلام كبيرة.

أمام هذا المأزق الفكريّ والعاطفيّ، الذي وجدت نفسي غارقاً فيه، أسارع إلى التقصي عن ظاهرة “الحزن” في أدبيات علم النفس، وأقرأ: “الحزن هو ألم نفسي يوصف بالشعور بالبؤس والعجز، وغالباً يُعتبر الحزن عكس الفرح”؛ فهل الحزن شعور “طبيعي” ينتاب جميع البشر؟ “يُعدّ الحزن من المشاعر الستة الأساسية، التي أَقرَّ بوجودها في مختلف الحضارات والثقافات العالِمُ النفساني بول إيكمان، وهي: السعادة والحزن والغضب والدهشة والخوف والاشمئزاز”. وغالباً ما يكون الحزن بسبب اشتياق إلى شخص أو شيءٍ ما أو بسبب موت شخص عزيز على الفرد أو بسبب مرض، أو أسباب أخرى.

“من هنا ندرك أهمية الحزن في حياة الإنسان؛ فهذا الشعور ليس مجرد مشاعر سلبية تؤثر على صحة الإنسان فحسب، بل هي مشاعر لها هدف كبير من أجل استمرارنا على قيد الحياة… ينصح علماء النفس بعيش الحزن وعدم لجمه أو طمسه، فهذا يسمح بسدّ النقص الذي أدّى إلى الحزن، وذلك عن طريق التعاطف مع المحزون ومحبّة الآخرين. إذا أنكرنا الحزن، فمن الممكن أن نصاب بعوارض نفسية، مثل الكآبة والإحباط والانحطاط المعنوي والعصبية والغضب والعدوانية والقلق والرهاب والعزلة”.

هل كل من أنكر الحزن يُصاب بهذه العوارض؟ وأية عوارض هي الأكثر احتمالاً في حالتنا اللبنانية؟ وهل من تأثير آخر أو عكسي إذا كان النكران جماعياً؟

ماذا لو كان النكران، ولأنه جماعي، لا يعبر عن حقيقة المشاعر، بل هو نوع من المكابرة والتعالي على الجراح أمام العدو وأمام الخصم الداخلي فقط؟ وهل تبقى هذه المكابرة على مستوى الوعي، أم تصبح جزءاً من المشاعر التي تتحول حكماً بفعل ذلك إلى مشاعر متناقضة، بين الحزن والفرح، لا بل ربما تفضي إلى حالة من اللامشاعر؟

هناك شبه توافق في علم النفس على أن الحزن يمر بخمس مراحل: الإنكار، الغضب، المساومة، الحزن الشديد، القبول. إذن، من المفترض أن يمر البشر جميعاً بمرحلة الإنكار، مباشرة بعد الصدمة. وقد ينتقل بعدها المصدوم إلى المراحل الأخرى في مسار التعافي، إذا لم تتحكم به إحدى المراحل، ويصبح عالقاً عندها. هنا أيضاً أتساءل إذا كان الحزن الجماعي يسلك نفس المسار أو أن له مساره الخاص المختلف.

أخرج من هذه التأملات أكثر حزناً من ذي قبل. فما هو مصير العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية بين الجماعات والأفراد في الوطن الواحد، إذا كانت جماعة تحزن عندما تفرح جماعة أخرى فيما هي تفرح عندما تحزن هذه الجماعة نفسها على قضايا جوهرية ووجودية من مثل الحياة أو الموت؟ وماذا لو تعممت هذه المشاعر فأصبحت القاعدة “مصائب قوم عند قوم فوائد”، مما يتجاوز مسألة الحياة والموت إلى التفاصيل الحياتية، لا سيما أن الحزن والفرح يوجّهان السلوك عادة، فتفعل ما يفرحك، وتتفادى ما يحزنك؟

تخيّل أنك قد تجد نفسك أمام وضع لا تعرف ما تقوله للآخر الذي فقد عزيزاً: “عوّض بسلامتك”، أو “عقبالك”! فلنتفق على الأقلّ أن هذا الالتباس العميق، هو بحدّ ذاته محزن للغاية، إنسانياً ووطنياً.

عندما نشرتُ في” النهار” مقالاً بعنوان “كيف سنعيد بناء الدولة معاً إن لم أستطع أن أفهمك يا ابن بلادي؟” -وكنت أخاطب في حينه أعضاء “حزب الله” ومناصريه- قالت لي صديقة شيعية غير منتمية إلى “الثنائي الشيعي”: “إنه لا يريدك أن تفهمه بل أن تحبّه”.

ربما تستعيد الصديقة، وهي تخاطبني، في لاوعيها “المظلوميتين الشيعيتين”، المظلومية الإسلامية المتمثلة بعاشوراء وما سبقها وما تبعها، والمظلومية اللبنانية والافتراض الخاطىء بأن أوضاع الطائفة الشيعية الصعبة مع نشأة لبنان الكبير وبعده قد تسبّبت بها المارونية السياسية، لا ظروف سابقة عليها. فلبنان الكبير وفّر للطائفة الشيعية مكانة مميزة بالمقارنة مع وضعها التاريخي، ومع بقية بلدان المنطقة، ثم عزّزتها السياسات التنموية المناطقية للحقبة الشهابية.

لكن الصديقة الشيعية ربما كانت تطلب مني أكثر من ذلك، كأن أُبَدّي الحبّ على الفهم، وعندها قد أفهم أكثر، مع علمها بأن أصدقائي من بين المسلمين، أكثريتهم شيعة. على الأرجح أنها لاحظت قساوة انتقاداتي لـ”حزب الله”، وأحياناً لـ”الثنائي الشيعي”، ويبدو أنه إبان الحرب قد اختلط عليها الأمر، إذ إن العدوان الإسرائيلي طال الطائفة الشيعية ككل، مما جعلها تشعر بأنني أقسو على الطائفة الشيعية نفسها.

لا أستبعد ذلك. أنظر مجدداً إلى صور الشهداء، ولا أجد كلاماً للخروج من حزني، إلا بالتأكيد، للذين استُشهد لهم عزيزٌ، أنني أحزن على استشهاده؛ فلعلهم عندها لا يترددون بالتعبير عن حزنهم أمامي. فأنا لا أتبنى نظرية “ثقافة الموت”، التي تُلصق بـ”حزب الله” وبيئته الحاضنة دون غيرها، بل أجد عند الجماعات كافة، ولا سيما المتديّنة منها، تصارعاً بين نزعة الموت ونزعة الحياة، تقوى هذه وتضعف تلك، بحسب الظروف التاريخية.

ولست هنا من المقتنعين بنظرية فرويد حول تعايش النزعتين عند كل فرد منذ الولادة، بل أميل أكثر إلى الاعتقاد بأسبقية نزعة الحياة، وبأن نزعة الموت تطلّ برأسها بعد لجم وقمع نزعة الحياة هذه. فهل نحسن التصرف وطنياً، ونخلق الظروف الملائمة لنمو نزعة الحياة عند الجماعات والأفراد، من اجل إعادة بناء الوطن على أسس من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام؟

اخترنا لك