شارل مالك المؤمن بشخصيته وحضوره

بقلم د. ميشال الشمّاعي

جيلنا لم يعاصر المفكّر شارل مالك، لكنّنا نهلنا من معينه الفكري الذي أكسبَنا مفاهيم القضيّة اللبنانيّة التي تقوم على الوجود المسيحي الحرّ، واحترام الآخر المختلف من حيث الهويّة المجتمعيّة فقط. هذا هو لبنان الذي حلم به شارل مالك؛ صاحب الشخصيّة الصلبة الذي شارك في وضع الإعلان العالمي لحقوق الانسان بصفته ممثل لبنان في الجمعيّة العامّة للامم المتحدة.

ما لا يعرفه الناس عن شارل مالك في تلك المرحلة أنّه كان رأس الحربة الفلسفيّة الفكريّة الليبراليّة بوجه الفلسفة الماركسيّة. في تلك المرحلة حيث كانت الشيوعيّة في أوجها، دخل مالك في معركة الحريّة الشخصيّة الكيانيّة، ووقف بوجه الفكر الشيوعي الذي أراد تغليب حريّة الجماعة ومصلحتها على حريّة الشخص البشري ومصلحته. ولو لم يكن مالك إبن البيئة اللبنانيّة الفذّة بصخورها وجبالها ووديانها، لما استطاع أن يقارع هؤلاء كلّهم بالحجّة والمنطق.

لقد اكتسب مالك هذه القوّة في الشخصيّة نتيجة التربيات الثلاث التي حصّلها في حياته:

– التربية البيتيّة حيث كان لوالديه الأثر الكبير في صقل شخصيّته، لكن إضافة إلى ذلك جدّته “إم حبيب”، التي كان لها الفضل الأكبر بهذه الشخصيّة “الكورانيّة” السمحة والصلبة في الوقت عينه.

– التربية التي تلقّاها أوّلاً في مدرسة الضيعة التي تربّى فيها على قيمة التواضع. ومن ثمّ انتقل بعدها ليتابع دراسته في طرابلس في Tripoli boys school التي تعرّف فيها إلى بيئة جديدة لم تختلف كثيراً عن بيئة ضيعته. أمّا دراساته الجامعيّة التي بدأ بتلقيها في الجامعة الأميركيّة في بيروت فهي التي أكسبته عبر دراسة الرياضيّات والفلسفة، ذلك المنطق الذي لم يستطع أحد قهره.

– التربية الدينيّة التي اتّخذها شارل مالك من كنيسة ضيعته “بطرّام” في الكورة حيث كان خادم القدّاس الأمين. إضافة إلى ذلك، كان قارئاً نهماً للكتاب المقدس. وصقل تربيته الدينيّة الأرثذوكسيّة بتعرّفه إلى المارونيّة وعشقه نهج حياتها النسكيّة. فضلاً عن اكتسابه الثقافة البروتستانتيّة من المجتمع الأميركي. لم تكن هذه التربية الدينيّة المسيحيّة منفصلة عن تعرّفه إلى الأديان الأخرى كالإسلام واليهوديّة، وغيرها من الأديان غير السماويّة التي التقاها في مسيرته العالميّة.

ذلك كلّه أكسبه صفة الحضور النقي الذي لم تشبه أيّ شائبة لأنّه تسلّح بإيمانه المسيحي أوّلاً وبإيمانه بالأخوّة الإنسانيّة ثانياً. والأكثر عمل لذلك طيلة حياته. فهو الذي أرسى أسس الإعلان العالمي لحقوق الانسان ووضع المادة 18 منه التي تنصّ على حريّة الضمير والدين والمعتقد.

لكن ما يجب إدراكه أنّ حضور شارل مالك تجاوز المكان والزمان. فهو الذي تنبّأ بدور الموارنة، لصديقه المفكّر أنطوان نجم بإدخال اليهود إلى المسيحيّة، وأوصاه ألا يكتب عن ذلك إلا بعد موته. وكتبها الأستاذ أنطوان نجم.

بقي مالك حاضراً برؤيته للقضيّة العربيّة التي أطّر أبعادها في خمسينيّات القرن الماضي، وحدّد كيفيّة التعامل معها للحفاظ على الكرامة العربيّة التي انتُهِكَت واستُبيحَت لأنّ رأيه لم يؤخذ في الحسبان. وحضوره في إنشاء فكر المقاومة اللبنانيّة لا يزال مدويّاً حتّى الساعة. وهذا الحضور بالذات سيمتدّ إلى الأبد لأنّ القضيّة اللبنانيّة قضيّة حيّة لا تموت.

شارل مالك هذه الشخصيّة الصلبة وهذا الحضور الفاعل في تاريخ الإنسانيّة جمعاء، ما أحوجنا إلى استلهاماته وتنبّؤاته في هذا الزمن الرديء! رجاؤنا، أنّ القضيّة التي فعّل حضورها من أعلى المنابر الأمميّة بعدها حيّة حتّى الساعة. ولن تموت لأنّها بنت الذين استُشهِدوا لنبقى نحن. وأن ننساهم هي الخطيئة المميتة التي إن ارتكبها بعض اليوضاسيّون فنحن لم ولن نرتكبها لأنّنا دوماً أوفياء.

اخترنا لك