بقلم غسان صليبي
قد يبدو الجواب على سؤال العنوان بديهيًّا بالنسبة للبعض، الذين لا يمكن ان يتقبّلوا فكرة ان يكون الإنسان “طبيعيًّا” ويمارس التعذيب في السجون. لكن الجواب ليس للأسف بهذه البساطة بالنسبة لعلم النفس وعلم النفس الإجتماعي. فالإنسان أكثر تعقيدًا ممّا يبدو ويمكنه ان يتأرجح في سلوكه بين الإنسان المحب – الملاك- والإنسان الشرير – الشيطان. ألم تعدّنا الأساطير الدينيّة لتقبل هذه الإزدواجيّة عندما أخبرتنا ان الشيطان هو في الأصل ملاك إنتفض على مشيئة الله؟
نقاش هذه المسألة هو امتداد لنقاش آخر حول “طبيعة” الإنسان، فهل هو خيِّر أم شرير في جوهره؟، هل تتنازع داخل “طبيعة” الإنسان غريزتان، واحدة خيّرة تُسمّى “غريزة الحياة” وأخرى شريرة تُسمّى “غريزة الموت” كما افترض فرويد، أم أن “غريزة الحياة” هي المتأصّلة في “طبيعة” الإنسان، وما غريزة الموت، إلاّ من نتائج كبت أو لجم “غريزة الحياة”، كما افترض آخرون ومن أبرزهم ويلهلم رايش وإيريك وفروم؟
مناسبة طرح موضوع التعذيب في هذا المقال، هو سقوط نظام الأسد في سوريا وما كشفه من ممارسات تعذيب فظيعة كانت تُمارَس في سجون هذا النظام. وإذا كان الرأي العام العربي والغربي قد ركّز إهتمامه على معاناة المساجين المعذَّبين، كحالة إنسانيّة تجسِّد الظلم بأقصى مظاهره، فإن ما هو أقسى باعتقادي، على مستوى الوعي الإنساني بشكل عام، هو ظاهرة التعذيب بحدّ ذاتها، كممارسة لا إنسانيّة تضع الإنسان وجهًا لوجه أمام أبشع سلوكياته عبر التاريخ.
نعم عبر التاريخ، فالسقطة الإنسانيّة المريعة التي يجسّدها التعذيب لا تقتصر على ما اكتشفناه في سجون نظام الأسد. فإن للتعذيب تاريخا يضرب جذوره في زمن بعيد، منذ 7 آلاف سنة بحسب الدلائل الأركيولوجيّة، كما ان التعذيب وفي القرون الوسطى كان يُعتبر ممارسة قانونية، تسعى المحاكم من خلاله الى انتزاع “الحقائق” من فم المشته بهم. الإلغاء الرسمي للتعذيب في أوروبا تمّ بين أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر؛ مع ذلك لا يزال 130 بلدًا حول العالم يمارسون التعذيب اليوم، بحسب بعض التقديرات.
ومن الأسباب التي ساهمت في إلغاء التعذيب رسميًّا، فكر “فلسفة الأنوار” الذي أعلى من شأن قيمة الإنسان وحقوقه، وتخفيض معايير إثبات الجرائم في الدعاوى الجزائيّة، وتراجع الإعتقاد الشعبي أن في الألم خلاصاً أخلاقياً، والتعويض عن التعذيب أو الإعدام من خلال إطالة مدّة السجن.
إن تجذّر التعذيب في التاريخ واتخاذه شرعيّة قانونيّة وأخلاقيّة في مرحلة تاريخيّة معيّنة وإستمرار ممارسته رغم إلغائه رسميًّا، يطرح على البشريّة اسئلة حول “طبيعة” الإنسان بشكل عام، وحول شخصيّة ممارسي التعذيب ودوافعهم بشكل خاص، وهذا ما سعى الى الإجابه عنه، علم النفس وعلم النفس الإجتماعي.
علم النفس طرح على نفسه الأسئلة التالية: كيف يمكن لشخص ان يعذّب شخصاً آخر بدم بارد؟ كيف يمكن للذي يمارس التعذيب ألاّ يبالي بعذابات ضحيته؟ ما هي الآليات النفسيّة التي تؤثّر بسلوك الذي يمارس التعذيب؟
رصد علم النفس نوعين من العمليات تفعلان عميقًا في نفسيّة الذي يمارس التعذيب: تجريد الضحيّة من إنسانيتها وإزالة الإحساس العاطفي.
“تجريد الضحيّة من إنسانيتها”، هي عمليّة نفسيّة تسمح للمعذِّب ان ينظر الى ضحيته ككائن مرتبته دون إنسانيّة، كحيوان أو كشيء، لا كرامة له ولا إحساس ولا حقوق على ممارس التعذيب مراعاتها، مما يرفع عنه المسؤوليّة عمّا يقوم به ويبرر عدم تعاطفه مع الضحيّة وبالتالي ممارسته أقسى درجات العنف.
أما “إزالة الإحساس العاطفي”، فيحصل في نفسيّة ممارس التعذيب، نتيجة تكرار العنف. وقد اعترف احد السجّانين انه لا ينتابه مشاعر حزن: “ليس لديّ أحاسيس، وكأنّ لا شيء هناك، وكأنّ نصف شخصيتي قد رحلت لأنه عندما تمارس الكثير من القتل أو التعذيب، عندما تشاهد الكثير من الموت، تفقد أحاسيسك وشخصيّتك”.
يعتقد علماء النفس ان هذين العمليتين النفسيتين، ربما تكونان مدفوعتين بآليات دفاعيّة لا واعية تسمح لممارسي التعذيب بفصل أنفسهم شعوريا عن معاناة الضحيّة. وهي آليات دفاعيّة تلقائية لحماية الفرد من القلق والصراعات الداخليّة والإضطّرابات في المشاعر. وتعمل هذه الآليات الدفاعيّة من خلال تمويه الواقع ومحاولة إنكاره حفاظًا على التوازن النفسي.
وإذا كان الكثير من ممارسي التعذيب لديهم شخصيات تعاني من بعض الأمراض النفسيّة من مثل الساديّة، غير ان بعضهم الآخر يبدون أفرادًا “عاديين” لا يعانون من إضطّرابات نفسيّة، مما يفترض ان ممارستهم للتعذيب متأتّية من خضوعهم لعوامل خارجيّة. وهذا ما لاحظه علم النفس الإجتماعي على أثر إجراء تجارب واختبارات سنتوقف عند أبرز تجربتين منها.
“تجربة سجن ستانفورد ” كانت محاولة للاستقصاء عن الآثار النفسية للاستجابات الإنسانية للأَسْر، واهتمت بالظروف الحقيقية لحياة السجن. تم إجراء التجربة في الفترة ما بين 14 إلى 20 آب (أغسطس) عام 1971 تحت إشراف فريق من الباحثين يقوده فيليب زيمباردو من جامعة ستانفورد. وقد قام بأداء دور الحراس والسجناء متطوعون وذلك في بناء يحاكي السجن تماماً. جميع هؤلاء كانوا أناساً عاديين، شبان وبصحة جيدة، والكثير منهم في مرحلة التسجيل للمشاركة، صرحوا انهم بشر مسالمون.
إلا أن التجربة تجاوزت بسرعة حدود السيطرة وتم إيقافها باكراً. فسرعان ما تحول السجن إلى مكان منفّر وغير صحي. وصار الدخول إلى الحمامات امتيازاً، قد يحرم منه السجين، وكثيراً ما حصل ذلك. وقد أُجبر بعض السجناء على تنظيف المراحيض بأيديهم المجردة. وتم إخراج الفرش والوسائد من ما سميت زنزانة، وأُجبر السجناء على النوم عراة على البلاط. أما الطعام فكثيراً ما حُرم السجناء منه كوسيلة للعقاب. لقد فُرض العري على السجناء وتعرضوا للتحرش الجنسي والإذلال من قبل السجانين.
“تعتبر هذه التجربة عرضاً لأنماط الطاعة والانصياع التي يبديها الناس عندما يتعرضون لنظام أيديولوجي يحظى بدعم اجتماعي ومؤسساتي. لقد تم توظيف هذا الاختبار لتوضيح وفهم معالم قوة السلطة.”
وكان “اختبار ملغرام” في علم النفس الاجتماعي، قد درس من قبل مدى الانصياع للسلطة. كان ستانلي ملغرام أول من شرحه في مقالة تحت عنوان “دراسة سلوكية للطاعة” عام 1963، ومن ثم وبشكل مطول قدمها في كتاب نشر عام 1974 تحت عنوان: “الانصياع للسلطة ؛ نظرة خارجية”. “كان الهدف من الدراسة قياس مدى استعداد المشاركين لإطاعة سلطة تأمر بتنفيذ ما يتناقض مع ضمائرهم.”
كان المشاركون رجالاً ما بين 20 ـ 50 عاماً ينتمون إلى مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية، منهم من لم ينه تعليمه الثانوي، وآخرون أتموا الدكتوراه.
قبل دخول غرفة الاختبار يتقدم المشرف من المشارك والممثل(الذي هو من فريق الباحث لكن دون علم المشارك) ويخبرهما بأن الاختبار يهدف لقياس أثر العقاب في التعلم. يتم وضع المشارك والممثل في غرفتين متجاورتين بحيث يتواصلان بالكلام فقط، دون أن يشاهدا بعضهما. أثناء الاستعداد للتجربة يصرح الممثل بأنه يعاني من مشاكل قلبية، لكنها ليست خطيرة.
جلس المشارك وأمامه على الطاولة جهاز الصدمات الكهربائية وله عدد من المفاتيح يشير كل منها إلى شدة محددة للتيار، تتدرج من 30 حتى 450 فولت. يقدم المشرف للمشارك ورقة تحوي مجموعة من الكلمات المتقابلة وهي التي يجب على الممثل- المتعلم أن يحفظها. واذا أخطأ على المشارك أن يعاقبه بالكبس على الزر المناسب لدرجة الفولت التي اختارها.
المشاركون يظنون إذن بأنهم يوجهون صعقات كهربائية للمتعلم. لكن في واقع الأمر لم تكن هناك أي صعقات كهربائية، بل كان هناك تسجيل صوتي معد مسبقاً بصوت الممثل- المتعلم يصدر فيه صرخات بالتناغم مع صوت الصعقات الكهربائية.
إذا أبدى المشارك في أي مرحلة من مراحل الاختبار رغبته في التوقف، كان المشرف يوجه إليه سلسلة متتابعة من التنبيهات، وفق التسلسل التالي:
1 ـ الرجاء الاستمرار. 2 ـ الاختبار يتطلب منك أن تستمر، استمر رجاء. 3 ـ من الضروري أن تستمر. 4 ـ ليس لديك خيار، يجب عليك الاستمرار.
إذا ظل المشارك عند رغبته في التوقف بعد ذلك، يتم وقف الاختبار.
في أولى مجموعة تجارب أجراها ميليغرام وصل 65% من المشاركين (27 من أصل 40) إلى الصعقة القصوى (450 فولت)، رغم كون كثير منهم غير مرتاح لهذا الأمر. تم إجراء تجارب عديدة من الاختبار في مختلف بقاع العالم وقد أدت إلى نتائج مشابهة.
يقول ملغرام: “النتائج كما تابعتها في المختبر، مقلقة، إنها ترجح أن الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها لتبعد الإنسان عن القسوة، والمعاملة اللاإنسانية، عندما تتلقى الأوامر من قبل سلطة فاسدة. نسبة كبيرة من الناس مستعدون لتنفيذ ما يؤمرون دون أخذ طبيعة الأمر بعين الاعتبار، وبدون حدود يفرضها الضمير، مادامت الأوامر صادرة عن سلطة شرعية.
إذا تمكن في هذا الاختبار، مشرف مجهول، من أن يوجه الأوامر لمجموعة من البالغين لقهر رجل في الخمسين من عمره، وإخضاعه لصعقات كهربائية مؤلمة رغم احتجاجاته ومرضه، لا يسعنا إلا أن نتساءل عما تستطيع الحكومات بما لها من سلطات أوسع بكثير أن تأمر به .”
أراد ملغرام من الاختبار أن يجيب على السؤال التالي: هل يعقل أن دور الجنود الذين نفذوا الهولوكوست بحق اليهود في المانيا لم يتعد تنفيذ الأوامر؟ هل يمكن أن يكونوا شركاء في الجريمة؟
وكانت حنة آرندت، الفيلسوفة الالمانية قد طرحت السؤال “هل يمكن للمرء أن يرتكب الشر دون أن يكون شريرًا؟” حين قدمت تقريرًا لجريدة النيويوركر في عام 1961 عن محاكمة أدولف أيخمان بتهمة جرائم الحرب، وقد كان أيخمان هو المسؤول النازي عن تنظيم نقل ملايين اليهود وغير اليهود إلى معسكرات الاعتقال المختلفة دعمًا للحل النهائي النازي.
“وجدت أرندت أن أيخمان كان بيروقراطيًا عاديًا، بل أقل من العادي، وبحسب ما عبّرت، فهو لم يكن “منحرفًا ولا ساديًا”، ولكنه كان “عاديًا بشكل مرعب”. فقد فعل ما فعله دون أي دافع سوى الاجتهاد في تعزيز مساره المهني في البيروقراطية النازية. أطلقت حنة على تلك الصفات المجتمعة في أيخمان اسم “تفاهة الشر”.”
تقاطعت اختبارات علم النفس الاجتماعي مع تحليلات آرندت، لتقول لنا إن الإنسان سهل الانقياد وهو قادر على تنفيذ أفظع الأعمال بحق أخيه الإنسان اذا طلبت منه او فرضت عليه سلطة شرعية(علمية، سياسية،…) القيام بذلك.
لم يقتنع الكثير من الباحثين بهذه الاستنتاجات، وقام بعضهم بإثبات وجود انحيازات غير علمية في الإختبارات لا مجال لتفصيلها في هذا النص. كما انه جرى التأكيد من خلال مقابلات أجريت مع المشاركين فيها، انهم كانوا يعتقدون من خلال تصرفاتهم، انهم كانوا يخدمون قضايا لصالح الانسان، أكانت علمية أو سياسية.
اكتشاف فظاعة “زنازين الاسد”، ومن دون ان تمنعنا من لعنة نظام الأسد وآثاره في سوريا كما في لبنان، يجب ان تدفعنا في الوقت نفسه، الى عدم اعتبار هذا النظام كمنتوج عائلي خاص بعائلة الاسد، بل الى التأمل بإنسانيتنا وبهشاشتها، وبكيفية بناء أنظمة ومؤسسات تطوّر من نزعاتنا الطيبة وتقلص من احتمالات