بقلم غسان صليبي
هلّلوا لمن تشاؤون، قدِّموا التحليلات التي تناسبكم حول موازين القوى الجديدة، أطلقوا التسميات التي تريدون على القوى السياسيّة المتصارعة، كل هذا لن يغيّر بشيء من الحقيقة المرّة والمؤلمة.
من انتصرت إسرائيل أم حماس؟ إسرائيل أم حزب الله؟ لا يهم، في الحالتين العنف هو الذي انتصر.
الأسد هُزم، روسيا وإيران هُزمتا، لكن من انتصر، الجولاني أم تركيا؟ لا يهم، في الحالتين العنف هو الذي انتصر.
من انتصر في لبنان، إسرائيل أم أميركا؟ من انتصر في سوريا، تركيا أم أميركا؟ لا يهم، في الحالتين، العنف هو الذي انتصر.
حماس في غزّة، حزب الله في لبنان، الأسد وروسيا وإيران في سوريا، كانوا منتصرين من قبل، بالعنف أيضاً.
في لبنان، بعد الحرب، الطائف صنعه العنف وطبّقته سوريا كما تريد بالعنف. رفيق الحريري جرى إلغاؤه جسديّاً وسياسياً بالعنف ومعه نتائج انتخابات نيابيّة كان سيكتسحها.
بيروت اُحتلّت بالعنف واتفاق الدوحة صنعه العنف. ميشال عون اُنتخب رئيساً “ببندقيّة المقاومة”.
الانتخابات الرئاسيّة عطّلها العنف وستجري بعد انتصار العنف على العنف.
كُتِب الكثير عن دور العنف في التاريخ. ها نحن نشهد في منطقة الشرق الأوسط، القديم والجديد، على إقصاء الأدوار الأخرى، السياسيّة والثقافيّة والإقتصاديّة والأخلاقيّة، لصالح الدور الطاغي للعنف في صناعة تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. ومع هيمنة أميركا وإسرائيل وتركيا، يكاد يكتسب العنف صفة “الأبد” مع السيطرة التكنولوجيّة المطلقة لأميركا وإسرائيل خاصة، واعتماد القوة العسكريّة بالمطلق على التقدّم التكنولوجي.
كيف يمكن لشعوب هذه المنطقة ان تتعامل مع هذه المعادلة الثلاثيّة: العنف يصنع التاريخ، السلاح هو أداة العنف، التكنولوجيا تطوّر السلاح وتحدّد موازين القوى العسكريّة؟
لم يعد مقنعًا لا بل أصبح مضحكاً، تكرار مقولة “أن إسرائيل لا تفهم إلاّ لغة القوّة”. لم يعد مقنعاً لا بل أصبح مبكياً، تكرار مقولة أن لا بديل عن المقاومة العسكريّة، لإسرائيل أو لأميركا أو لأي دولة من الدول التي تلعب دوراً مهيمناً في منطقتنا. “طوفان الأقصى” كان الأقسى على شعب فلسطين وقضيتها، و”حرب الإسناد” لم يسندها لا عقل ولا منطق ولا حجة ولا نتائج. الحربان الإسرائيليتان على غزّة وعلى لبنان، أثبتتا العجز الكامل للمقاومات العسكريّة في التصدّي للآلة العسكريّة الإسرائيليّة. والتقدّم التكنولوجي وتأثيره على موازين القوى العسكريّة مرشّح لتوسيع الفجوة أكثر فأكثر بين قدرات إسرائيل وإمكانيات المقاومات العسكرية. نحن نشهد على تهافت منطق المقاومات العسكريّة، وما تبقّى منه أصبح أشبه بالهذيان.
إفلاس المقاومات العسكريّة التي ترافقت دائماً مع التبعيّة لأطراف خارجيّة- أي أنها كانت تقاوم احتلالاً بالرضوخ الى احتلال آخر- لا يعني الاستسلام للعنف وما يمليه على شعوب المنطقة وأنظمتها السياسيّة.
الانتفاضة المدنيّة الفلسطينيّة لم تستسلم للعنف بل أجبرت الاحتلال على التنازل عن بعض الأراضي وبعض السلطة وحرّرت غزّة بالكامل ولو تحت الحصار؛ فيما الانتفاضات العسكريّة السابقة واللاحقة أضعفت السلطة وقضمت ما حُرِّر من الأرض وأعادت احتلال غزّة بالكامل، وفتحت الباب واسعاً أمام احتمال تهجير الفلسطينيين من غزّة ومن الضفّة.
الثورة السوريّة السلميّة الموحّدة كادت تطيح بنظام الأسد سريعاً دون سفك دماء ولا تدمير للعمران؛ فيما عسكرة الثورة بدفع من نظام الأسد، أطالت بعمر النظام وهجّرت ملايين البشر وقتلت ودمّرت وقسّمت الشعب والأرض.
انتفاضة 17 تشرين اللبنانيّة السلميّة الموحّدة، أسقطت حكومة الحريري وواجهت فساد السلطة والمصارف وطرحت الإصلاح السياسي والاقتصادي، لكنّها سقطت تحت الضربات المتلاحقة لـــ”المقاومة العسكريّة”؛ فيما “المقاومة العسكريّة” نفسها عطّلت المؤسّسات الدستوريّة وأقحمت البلاد بحرب أدّت الى نكبة لم يشهدها لبنان من قبل، وبدل أن تحرّر مزارع شبعا وتلال كفرشوبا كما كانت تدّعي، استجلبت الاحتلال من جديد ووقّعت اتفاقًا مع إسرائيل أعطى الولايات المتّحدة الأميركيّة الحق بالوصاية العسكريّة على لبنان.
هذه المحاولات “اللاعنفيّة” في البلدان الثلاثة التي يعشعش فيها العنف في الأسرة وفي مكان العمل وفي الأحزاب السياسيّة وفي الإيديولوجيات السياسيّة والدينيّة، لم تترافق مع انتشار ثقافة لاعنفيّة في الأوساط الشعبيّة، رغم تسلّل هذه الثقافة في العقدين الأخيرين، عبر الجمعيات، وحتى عبر الجامعات، كما حصل في لبنان، مع إنشاء جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان.
كانت مشكلة هذه الثقافة اللاعنفيّة مع الثقافات السياسيّة السائدة، انها بدت “مستوردة” وتصلح أكثر في مجتمعات أخرى نجحت فيها، في الهند أو في أميركا مثلاً، بقيادة غاندي أو مارتن لوثركينغ، بينما هي لا تصلح بحسب هؤلاء، في مجتمعات معسكرة، يتربّص بها عدوّ إسرائيلي “لا يفهم إلاّ لغة العنف”.
يمكن بتبسيط تام، تبيان عنصرين في الثقافة اللاعنفيّة، عنصر استراتيجي وعنصر أخلاقي – فلسفي. العنصر الاستراتيجي يروّج للثقافة اللاعنفيّة، بصفتها مقاربة نضاليّة تحتاج الى استراتيجيا وتكتيكات وتدريب لتحقّق أهدافها، وهي أنجع من المقاومات العسكريّة في ظروف معيّنة، حيث الخصم يستخدم العنف كوسيلة هيمنة، والمقاومة العنفيّة تناسبه تماماً كحجّة لممارسة بطشه.
هذا المنطق لم يكن ليعجب أنصار النضال المسلّح، الذين رأوا فيه طوباويّة سياسيّة، إن لم يكن استسلاماً لا سيّما تجاه العنف الإسرائيلي. لا أعرف إذا كانت الهزيمة المطلقة للمقاومات العسكريّة في فلسطين ولبنان، ستجعل من هؤلاء يعيدون النظر في موقفهم، أم أن الثقافة العنفيّة المتجذّرة في عقولهم ستمنع عليهم رؤية الواقع الجديد كما هو.
وهنا نلمس أهميّة العنصر الأخلاقي- الفلسفي في الثقافة اللاعنفيّة. فاللاعنف ليس فقط خياراً لأنه استراتيجيا ناجحة في مواجهة العنف، أي ان أهمّيته ليست “عملانيّة” فحسب، بل أخلاقيّة – فلسفيّة، تعتبر العنف مذلاًّ للإنسان ومنتهكًا لكيانه وكرامته وحقوقه. وقد تكون الظروف الحالية في منطقة الشرق الأوسط، مناسبة تماماً لطرح السؤال الأخلاقي –الفلسفي التالي: إذا كان العنف هو من يصنع تاريخنا ويضع قيمة السلاح وتأثيره فوق قيمة الإنسان وإرادته، فهل نتبنى هذه الأخلاقيّة- التي هي أشبه بشريعة الغاب التي يسيطر فيها الأقوى على الاضعف ويملي عليه إرادته بدون اعتبار للقيم والقانون والكرامة الإنسانيّة- فنردّ على العنف بالعنف فيما نحن ننتقده ونرفض آثاره؟ أم انه علينا إنتاج أخلاقيات مناقضة، ولو بحكم الأمر الواقع وبفعل الهزيمة، نبني على أساسها ثقافة لاعنفيّة نزرع جذورها، في الأسرة وفي العمل وفي فكر الأحزاب السياسيّة وحتى في اللاهوت والفقه الدينيين؟
ثقافة لاعنفية، تعيدنا الى الالتفات إلى الداخل لبنائه وتنميته، وليس قمعه بحجة مقاومة الخارج، فنستمع الى ما تقوله العلاقات المدنية وليس الميدان، وبدل أن يكون شعارنا “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، نردد بدون خوف ان “لا صوت يعلو على صوت النضال اللاعنفي من أجل الحقوق”، حقوق الطفل والمرأة والعمال والمعوّقين والمواطنين والوطن، في إطار دولة سيدة مستقلة وديمقراطية، تحتكر استخدام العنف في ظل احترام الدستور والقوانين، وتحمي مواطنيها وحدودها بعقلانية، مستخدمة كافة الوسائل المتاحة.