أبرز تحديات إعادة #بناء_الدولة

بقلم غسان صليبي

مع نهاية هذه السنة وبداية سنة جديدة، قد يكون عنوانها الرئيسي في لبنان إعادة بناء الدولة، تعالوا نجري تمريناً نرصد من خلاله بعض تحدّيات بناء هذه الدولة، محددين فترة الرصد بين عيدي الميلاد ورأس السنة، لتعدد الأحداث التي شملتها هذه الفترة، ولأنها غطّت معظم المناطق اللبنانية، وشكّلت مخالفة لمروحة واسعة من القوانين بين الأفراد وبين الطوائف وبين لبنان وإسرائيل. ورغم أن هذه العينة المرصودة ليست ذات صفة تمثيلية أكيدة، غير أنها تساعدنا على فتح النقاش حول الموضوع بأمثلة حية.

ففيما معظم اللبنانيين يتبادلون التهاني بعيدي الميلاد ورأس السنة ويتمنون لبعضهم البعض “المحبة والخير والسلام”، هناك من بادر إلى تكسير مدارس المطرب راغب علامة في الضاحية الجنوبية؛ وهناك من أحرق شجرة الميلاد في طرابلس؛ وهناك كاهن حمل السلاح في رتبة قداس الميلاد في مزرعة يشوع؛ وهناك من قتل زوجته في محكمة شرعية؛ وهناك من نزح عن بيته ولا يستطيع العودة لعدم توفر امكانيات إعادة البناء في الضاحية والجنوب والبقاع؛ وهناك فوق كل ذلك إسرائيل، وفي ظل اتفاق وقف إطلاق النار، تحتل وادي الحجير وتمنع الجنوبيين من دخول قرى الشريط الحدودي، وتشن غارة على البقاع وغارات على الحدود اللبنانية- السورية، بالتوازي مع إشارات بعدم التزام “حزب الله” بكامل موجباته، وتأكيد أمينه العام في أول يوم من العام الجديد أن المقاومة استعادت عافيتها. وقبل أقل من أسبوعين على موعد انتخاب رئيس للجمهورية، تبدو العملية متعثرة بانتظار كلمة سر يتوقع النواب وصولها من الخارج.

تسمح لنا هذه العينة لبعض ما حدث بين العيدين، بالتوقف عند أبرز التحديات أمام إعادة بناء الدولة في لبنان.

١- التحدي الأول هو الاتفاق بين اللبنانيين على أن الدولة المطلوب إعادة بنائها هي “دولة القانون”. فـ”لا محبة ولا خير ولا سلام” كما يتمنى اللبنانيون في أعيادهم، إذا لم يُطبّق القانون. ولا تطبيق للقانون بدون الدولة، ولا دولة تطبّق القانون بدون احتكار استخدام العنف من قبلها، عن طريق حصر السلاح بيدها. فيصبح ممنوعاً ويُعاقب القانون على تكسير مدرسة أو احراق شجرة ميلاد أو حمل السلاح داخل كنيسة، أو قتل زوج زوجته. حصر السلاح بيد الدولة ليس واحداً من مواصفاتها بل شرطاً لوجودها، لدرجة ان ماكس فيبر، وهو أحد أبرز المنظّرين حول الدولة، يقول إن الدولة دولة طالما هي “تحتكر العنف الشرعي على أراضيها”.

٢- التحدي الثاني هو انتخاب رئيس الجمهورية بحسب الدستور وهو النص التشريعي الأول في دولة القانون. حتى الآن الدينامية الديموقراطية التي يتبناها الدستور شبه معطلة، ترشيحاً وبرامج وتحالفات، والطاغي هو الاعتماد على الخارج في اختيار الرئيس بما يخالف الدستور. ويأتي تدخل الخارج في مرحلة انقسام في البلاد بين “الثنائي الشيعي” وخصومه، ودعم هذا الخارج للخصوم في هذه المرحلة.

لن تبنى دولة إذا حوّل هؤلاء الخصوم هزيمة “حزب الله”، التي لم تكن انتصاراً لهم بل لإسرائيل وأميركا، إلى مناسبة للانتقام وتصفية الحسابات والتسلط من خلال فرض رئيس للجمهورية لا يوافق عليه معظم الشيعة.

لعل هؤلاء الخصوم يتذكرون بشاعة “فائض القوة” ومخاطره على وحدة الدولة ومؤسساتها، وأن هذا الفائض مُستمَد من الخارج، مع “حزب الله” من قبل ومع معارضته اليوم. فتمتنع المعارضة بالتالي عن التصرف كما كان يتصرف “حزب الله”، ما أثار عليه الغضب إلى حد الكراهية في أوساط معظم اللبنانيين. لكن هذا لا يعني على الإطلاق القبول باختيار “الثنائي” وحلفائه لرئيس يكون مدخلاً للاستمرار بالسياسات السابقة التي أدت إلى تدمير الدولة.

٣- التحدي الثالث هو تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل بوجهيه، انسحاب إسرائيل من جهة وتسليم “حزب الله” سلاحه للدولة من جهة ثانية. نعم “حزب الله” هُزم في “حرب الاسناد” وهو يتحمل المسؤولية الأولى عمّا حل بالبلاد وببيئته الحاضنة، وهزائمه تتلاحق من سقوط حليفه الأسد إلى احتمال سقوط الحوثيين في اليمن ونظام الولي الفقيه في إيران.

لكن بناء الدولة لا يعني تذكير الحزب بذلك صبحاً ومساء؛ ومع كل انتهاك إسرائيلي يومي لاتفاق وقف إطلاق النار مساءلته عن الاتفاق بكيدية وشماتة، وعما تضمن وكيف قَبِل بما يشبه الاستسلام. فبعد توقيع الاتفاق من قبل الحكومة اللبنانية أصبح من مسؤوليتها هي متابعة تنفيذ الاتفاق، واذا خالفت إسرائيل أو حزب الله الاتفاق عليها أن تصرح بذلك وتتبع الإجراءات المطلوبة، وعلى الإعلام والأحزاب والناس بشكل عام أن تطالب الحكومة بالقيام بواجباتها. بناء الدولة يفترض الاعتراف بمرجعية مؤسسات الدولة مهما كان الموقف منها، ومساءلتُها هو الطريق لتقويتها. وإذا كان موقف نعيم قاسم الأخير يتقاطع مع موقفنا لناحية مساءلة الدولة، فنحن نعتبر أن “حزب الله” هو اليوم عماد هذه الدولة المهترئة والمتخاذلة، بحكومتها ومجلسها النيابي المُقاد من قبل رئيسه.

٤- التحدّي الرابع هو إيجاد صيغة حكم لا تتعامى عن الحساسيات الطائفية والمذهبية في بنية المجتمع اللبناني، وفي الوقت نفسه تترك الباب مفتوحاً أمام نمو اتجاهات لاطائفية تأخذ شكل الأحزاب أو التجمعات السياسية. وربما كان اتفاق الطائف لا يزال الأفضل في قدرته على التوفيق بين الاعتبارين، من خلال تشكيل مجلس الشيوخ من جهة والبدء بمناقشة موضوع إلغاء الطائفية بالتوازي مع إقرار اللامركزية الموسعة من جهة ثانية. رغم توقعنا لرجحان الصيغة اللامركزية على الصيغة المركزية، نظراً للتطورات الداخلية والإقليمية.

٥- التحدي الخامس يتناول علاقة الدولة بالوطن. في التعريف الأكثر تداولاً للوطن، انه يتشكّل من ثلاثة عناصر، الشعب والدولة والحدود. دور الدولة محوري لكنّه لا يستقيم بدون عناصر الوطن الأخرى، مهما بلغت الدولة من تطوّرها كجهاز سياسي – إداري – أمني – اقتصادي.

مسألة عودة النازحين الى بيوتهم تمس عنصري الشعب والحدود معاً. عودة النازحين الى بيوتهم وانسحاب إسرائيل من كافة البلدات والقرى التي احتلّتها، يعيد للوطن معناه الشامل ويعطي للدولة معناها الوطني.

من جهة أخرى، الشعب بمجموعه هو من يمد الدولة بشرعيتها، ليس فقط باعتباره مصدر السلطات التي تقوم عليها مؤسسات الدولة، بل لناحية اعترافه بهذا الوطن التي تحكمه هذه الدولة.

لقد بدأت هذه الدولة تتفكك وتفقد دورها بعد اتفاق القاهرة، ومباشرة بعد نموها واكتمال وظائفها في العهد الشهابي. وتلقت هذه الدولة ضربات قاضية ابان حرب 1975 وحربي 2006 و 2024.

المشترك بين العوامل التي أدّت الى تصدّع الدولة وصولاً الى انهيارها شبه الكامل في السنوات الأخيرة، هو انخراط قسم وازن من اللبنانيين في حروب المحاور الإقليميّة. كان محسن ابراهيم سبّاقاً في الاعتراف بالخطأ القاتل الذي ارتكبته “الحركة الوطنيّة” من خلال زج لبنان في صراعات إقليميّة لا طاقة له عليها. على أمل أن يجد “حزب الله” الشجاعة الكافية للاعتراف بخطأ مماثل كانت نتائجه أفظع، نتساءل عن أسباب الوقوع في هذا النوع من الأخطاء التاريخيّة في الخمسين سنة الأخيرة من عمر الكيان أي بعد بلوغه منتصف عمره الحالي؟

أحد الأسباب الرئيسيّة هو عدم اعتراف شرائح واسعة من المجتمع اللبناني بكيان وطنهم واعتباره إما “خطأ تاريخي” أو “صنيعة للاستعمار” أو “مجرد قطْر في دولة ولاية الفقيه الإيرانيّة”. هذا “اللانتماء” إلى الوطن يصاحبه حكماً استخفاف بدولة هذا الوطن وبشعبه وبحدوده لدرجة عدم المبالاة باستباحتها وعدم مراعاة التكلفة البشرية والمؤسساتية والمادية للسياسات المعتمدة.

إعادة بناء الدولة يمر بداية بالانتماء إلى الوطن الذي ستحكمه هذه الدولة

لم أتناول في العمق في هذا النص مسألة عودة حزب الله إلى الدولة. فقد عالجتها بالتفصيل في مقال حديث نشرته في “النهار” بعنوان “حول مطلب عودة حزب الله إلى الدولة”. كما أنني لم أتناول الدور الاقتصادي- الاجتماعي للدولة في مسار إعادة بنائها، وكعنصر أساسي في تشكيل هويتها. وهذا ما أفضّل معالجته بعد انتخاب الرئيس وخلال مخاض تأليف حكومة جديدة، سيكون من أبرز مهامها الإنقاذ الاجتماعي- الاقتصادي إلى جانب متابعة تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل.

اخترنا لك