بقلم د. كولشان يوسف صغلام
@gulshansaglam
قد يكون قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالتريث في تحديد موعد زيارته الأولى إلى سوريا غداة سقوط نظام بشار الأسد، مرتبطاً بنصائح وزير خارجيته هاكان فيدان ورئيس الإستخبارات إبراهيم كالين، لجهة تجنب أن تُفسَّر الزيارة خطوة استفزازية موجهة ضد العالم العربي.
منذ اسقاط النظام السوري قبل شهر، شهدت السياسة التركية تحولات جذرية ترافقت مع تغييرات جيوسياسية في المنطقة. في هذا السياق، قاد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ورئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالين هذه التوجهات الجديدة بهندسة محكمة تستجيب للواقعين الإقليمي والدولي المتغيرين. وبناءً على استراتيجيات معقدة تتوازن بين دعم استقرار سوريا وتوطيد علاقات إدارة سوريا الجديدة مع الدول العربية، أظهرت تركيا استعدادًا للمساهمة في تحقيق سلام إقليمي مستدام، بعيدًا عن التوسع الجغرافي أو الهيمنة على القرار السوري.
مقاربة دبلوماسية جديدة
من خلال موقعهما في القيادة التركية، قام هاكان فيدان وإبراهيم كالين بتطوير استراتيجية دبلوماسية مبتكرة تتسم بالتوازن بين دعم استقرار سوريا من جهة وحماية المصالح التركية في المنطقة من جهة ثانية. تركيا كانت دائمًا ترى أن سوريا هي جزء من الأمن الإقليمي ولا يمكن عزلها عن محيطها العربي. بناءً على هذا الفهم، بدأ الطرف التركي يتحرك في مسار إعادة بناء علاقات دمشق مع باقي الدول العربية.
وبعد سنوات من العزلة، لعبت الزيارات المكوكية والاتصالات التركية دورًا محوريًا في إعادة تأسيس مسار من الثقة بين سوريا والعالم العربي، مع التأكيد على احترام سيادة سوريا وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
ما هو هدف تركيا؟
الهدف التركي لم يكن فقط إعادة علاقات سوريا مع العالم العربي، بل تعزيز التعاون العربي الإقليمي المشترك لتسريع إعادة بناء الدولة السورية سياسيًا ومؤسساتيًا. سعت أنقرة إلى تجنب أي خطوة قد يُفهم منها محاولة فرض هيمنة على سوريا أو استخدامها أداة لتحقيق مصالحها. في المقابل، سعت أنقرة لفتح حوار عميق مع دول الخليج، ولا سيما السعودية والإمارات، في محاولة لتقديم تطمينات وضمانات بشأن مستقبل سوريا، من دون أن يتم تحجيم دور تركيا أو قطر في المسألة السورية، حيث استقبلت تركيا أكثر من 5 ملايين لاجئ سوري إلى جانب دعم واحتضان المعارضة السورية وصولاً إلى اسقاط النظام، وهذا ما جعل مفتاح سوريا بيد أنقرة، باعتراف الأميركيين ولا سيما الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
وعلى الرغم من تحفّظ بعض الدول العربية، ومنها الإمارات، حول التعامل مع سوريا الجديدة، بقيت أنقرة ملتزمة بالتعاون مع جميع الأطراف لتحقيق استقرار سوريا بعيدًا عن تفرّد أي طرف إقليمي. الزيارات التي شملت السعودية وقطر والإمارات، هي جزء من الاستراتيجية التركية المدروسة لإعادة التوازن للعلاقات السورية العربية، وهي تعكس الدور التركي المحوري في هندسة هذا التقارب.
كانت البداية من زيارة وزير الخارجية السوري على رأس وفد رفيع المستوى إلى كل من الرياض وأبو ظبي، وذلك في إطار رؤية تركية تهدف إلى تمهيد الطريق لعودة سوريا إلى محيطها العربي. هاتان الزيارتان كانتا ضروريتين نظرًا لأهمية دور السعودية والإمارات في استقرار المنطقة ولا سيما مكانة المملكة الرمزية في العالم العربي.
وبين هاتين الزيارتين، ثمة زيارة سورية إلى الدوحة، كان هدفها مزدوجًا: أولاً، تقديم الشكر لدور قطر البارز في دعم الشعب السوري من خلال المساعدات الإنسانية والسياسية والدعم المستمر للمعارضة السورية؛ وثانيًا، التأكيد على الدور المستقبلي لقطر في عملية إعادة بناء سوريا والبحث في كيفية رفع العقوبات عن سوريا، ودور دول الخليج العربي في مسألة إعادة إعمار سوريا، حيث لا يمكن لتركيا أن تقوم بذلك بمفردها. هذه الزيارة شكلت أيضًا رسالة استراتيجية تركية تؤكد على ضرورة تكامل الجهود بين أنقرة والدوحة لضمان استقرار سوريا بعيدًا عن التدخلات الخارجية..
وتمثل هذه الزيارات علامة فارقة بعد سنوات من التردد العربي في إعادة دمج سوريا في المنظومة العربية وفي جامعة الدول العربية، كما أنها كانت مؤشرًا على تفعيل التعاون العربي السوري في المجالات السياسية والأمنية والعسكرية. هذه الزيارات كانت جزءًا من هندسة أنقرة المحورية، حيث تعمل تركيا على إعادة بناء الثقة بين دمشق والعواصم العربية تحت إشراف دبلوماسي من هاكان فيدان وإبراهيم كالين.
هذه الاستراتيجية تتضمن إشراك الدول العربية الكبرى، مثل السعودية والإمارات وقطر، في عملية إعادة تأهيل الدولة السورية سياسيًا، مع التركيز على الأبعاد الأمنية والعسكرية والاقتصادية، لضمان استقرار طويل الأمد للمنطقة.
كل هذه الزيارات، تهدف إلى توفير حماية لسوريا من خلالها إعادة اندماجها بعمقها العربي وهذا من شأنه أن يُعزّز الشراكة السياسية والأمنية والاقتصادية بين الأطراف المعنية، ويُسهم في استعادة سوريا مكانتها الطبيعية في العالم العربي، بعيدًا عن أي محاولة للهيمنة أو الاستغلال الإقليمي.
ولعل التحفظات العربية التي سادت في الفترة السابقة، كانت تنبع من مخاوف تتعلق بوجود تيارات إسلامية متطرفة قد تستغل هذه العودة لتحقيق نفوذ إقليمي. مع ذلك، أظهرت تركيا وقطر، عبر هذه الزيارات، التزامهما بتوجيه خطاب سوري داخلي يعزز الاستقرار بعيدًا عن الأيديولوجيات المتطرفة، وهو ما طمأن العديد من الدول الخليجية التي كانت تُشكّك في هذا التقارب.
وبرغم نجاحات تركيا الدبلوماسية، فإن هناك عدة تحديات عميقة تُهدّد نجاح هذه الاستراتيجية. أولها، الانقسام العربي حول كيفية التعامل مع دمشق.
فبينما تؤيد بعض الدول العودة السريعة للعلاقات مع سوريا وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، هناك دول أخرى مثل مصر وبعض دول الخليج والجزائر التي ما تزال تُشكّك في الخطوات السورية الإصلاحية وقدرتها على إحداث التغيير المطلوب. لذلك، كان على تركيا أن تعتمد على سياسة متوازنة تأخذ بالاعتبار مصالح جميع الأطراف، وفي الوقت ذاته تحافظ على الاستقرار في سوريا.
ثانيًا، تبقى مسألة التحديات الأمنية وعودة التنظيمات المتطرفة، مثل “داعش”، تُشكّل هاجسًا كبيرًا للدول العربية. فبينما تسعى تركيا لإعادة تأهيل الدولة السورية، فإنها تدرك أن هناك مخاوف حقيقية من أن يؤدي أي فراغ سياسي إلى عودة هذه الجماعات الإرهابية، وهو ما يتطلب ضمانات واضحة من دمشق تجاه هذه القضية.
هل سينجح هذا التوازن التركي؟
من الصعب تحديد قدرة تركيا على الحفاظ على هذا التوازن في مقاربتها السورية في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي، لكن استراتيجيتها حتى الآن تبدو واعدة. لقد أظهرت تركيا بوضوح أنها ليست ساعية للهيمنة على سوريا، بل تسعى لتسوية سياسية تقودها الدول العربية وتستفيد من دور تركيا كمساهم ولاعب رئيسي في استقرار المنطقة.
في النهاية، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل ستتمكن تركيا من استكمال هذه المقاربة الدبلوماسية المتوازنة؟ وهل ستتمكن من تحقيق توافق عربي شامل حول سوريا من دون حدوث انقسامات إضافية قد تضر بالاستقرار الإقليمي؟ فقط الوقت سيجيب عن هذه التساؤلات.