بقلم مكرم رباح
عاش لبنان واللبنانيون، لا سيما خلال العقدين الماضيين، تحت وهم أو قناعة بأن وضعهم السياسي والاقتصادي وحتى الفكري الرديء والمتراجع هو واقع دائم يجب التعامل معه بخنوع، وبأن التغيير الحقيقي لا يأتي إلا من الخارج، من دون أي دور فعلي للبنانيين في كسر قيود أسرهم. هذه القناعة خلقت جيلاً متقبلاً للفساد ومبتعداً عن النضال، وهو أمر باتت نتائجه كارثية على الهوية الوطنية والسيادة اللبنانية. دفع هذا الواقع اللبنانيين إلى رمي مفاهيم أخلاقية وسياسية في القمامة، مثل المصداقية والكفاءة، واستبدالها بمفاهيم أخرى تمجد الواقعية السياسية، التذاكي، وحتى القوة، في إطار منظومة تحتفل بالفساد كطريق حياة.
انتخاب الرئيس جوزاف عون وتسمية نواف سلام، والأحداث المتسارعة التي تبعتها، أحدثت صدمة إيجابية في شعب لبناني تعوّد على سراب الأمل، وعلى الرهان على الخارج بشكل يجعله رهينة حفنة من الأشرار الذين اعتادوا اللعب على حبال السياسة الضيقة والمدمرة.
تسمية الدكتور نواف سلام، المفكر والدبلوماسي ورئيس محكمة العدل الدولية، لتشكيل الحكومة القادمة ليست مجرد تفصيل بسيط أو انتصار للإصلاحيين والسياديين في لبنان والشرق، بل هي حدث يستوجب الوقوف عنده لما يحمله من رمزية واعتبارات موضوعية وتأسيسية. هذا الحدث يمثل نقطة تحول في الفكر السياسي اللبناني، حيث يعكس انتصار القيم الفكرية والأخلاقية على الفساد والقوة المفرطة.
لطالما نظرت المنظومة اللبنانية إلى أشخاص كسلام وسمير قصير ولقمان سليم وسمير فرنجية ولور مغيزل وليندا مطر وغيرهم كأشخاص “غير صالحين” للحكم والسياسة، بحجة أنهم متعمقون في النظريات والأخلاقيات البعيدة عن دهاليز السياسة ودهائها.
موقف “حزب الله” وحليفه حركة أمل الرافض لتسمية نواف سلام يعكس أهمية الحدث. تلقفه معظم اللبنانيين بفرح وتفاؤل مفرط، بمن فيهم قسم كبير من الطائفة الشيعية التي تدرك الآن أن “حزب الله” وإيران لم يجلبا سوى الدمار والتهميش. انتخاب عون وتسمية سلام يشكلان صفعة مدوية لمحور الممانعة وطبقته السياسية، التي وعدت اللبنانيين بالفردوس لكنها دفعتهم نحو جحيم المآسي.
محاولات “حزب الله” لتأجيل موعد استشاراته مع الرئيس عون وتصريحات رئيس كتلة “الحزب” محمد رعد عن “الميثاقية” ليست سوى محاولة تضليل فاشلة. هرطقة دستورية لا يحق لمجموعة مسلحة متهمة بالقتل وتهريب المخدرات وتفجير مرفأ بيروت أن تتذرع بها. إن كان الحاج رعد يعتبر نفسه مرجعاً في “المقاومة” والميثاقية، فإن نواف سلام، بتجربته الأكاديمية والدبلوماسية ومؤلفاته الدستورية، هو المرجع الأول والأخير في تفسير اتفاق الطائف، الذي دأب “حزب الله” ونبيه بري وحليفهما ميشال عون على تشويهه واغتياله معنوياً.
ميثاقية نواف سلام تأتي من مؤلفاته القانونية والإصلاحية، ومن شراكته مع مثقفين مرموقين مثل هاني فحص والياس خوري وفارس ساسين وجوزيف مَيْلا وثيودور هانف وفاروق مردم بيك ومروان بحيري ووليد ورشيد وطريف الخالدي وأحمد بيضون وكمال صليبي. مكتبة نواف سلام في بيته تحوي كتباً ودراسات تفوق عدد الأسلحة الإيرانية الرديئة أو أطنان النيترات التي وزعتها إيران لدعم حلفائها في نظام البراميل المتفجرة.
من يقرأ ويناقش كتباً مثل أبعد من “الطائف: مقالات في الدولة والإصلاح” وLebanon in” Limbo” ومئات الكتب والدراسات لسلام وعشيرته الفكرية لا يمكن أن يُقارَن بمن يدير ميليشيا تعيش على الخوف والتبعية المطلقة لقوى خارجية، ومن يقرأ حصراً كتباً تستعمل الدين والمهدوية لتبرير القتل وحكم الطغاة.
قل لي من تعاشر أو ماذا تقرأ، أقل لك من أنت، يا حاج محمد.
فأنت ربيب أشخاص يمتهنون القتال وقتل مهدي عامل وحسين مروة ومصطفى جحا ورفيق الحريري ومحمد شطح ولقمان سليم ومئات من الأبطال في معركة الحرية.
من هذا المنطلق، فإن نواف سلام ومشروعه الإصلاحي يمثلان الميثاقية الحقيقية. أما حديث “حزب الله” عن الميثاقية، فهو وهم آخر يُضاف إلى قائمة الأكاذيب التي دفعتهم من شعارات “تحرير القدس” إلى دفن قياداتهم في ساحات بلا هوية.
نواف سلام ليس مجرد اسم، بل صورة لبنان الذي دفعنا الدماء من أجله. إنه الوجه الذي يخشاه كل جبان يرى في العدالة والقانون تهديداً لوجوده. وإرساء لميثاقية إنسانية حقيقية أخيراً أصبحت حقيقية.