بقلم كوثر شيا
لبنان ليس مجرد مساحة جغرافية، بل هو أرض الحضارات المتعاقبة التي سبقت الرومان بآلاف السنين. فمن الفينيقيين إلى السومريين والكنعانيين، تركت هذه الشعوب بصمتها على أرضه.
اليوم، في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية، تتعرض هذه الأرض لانتهاكات خطيرة تطال بيئتها وإرثها الحضاري وأملاكها العامة، مما يهدد هوية لبنان وتوازنه الطبيعي.
التعديات البيئية ونهب الأملاك العامة
البحر لم يعد للشعب : كيف تمت سرقة الشط اللبناني؟
في معظم دول العالم، يعتبر الشاطئ ملكًا عامًا متاحًا لجميع المواطنين، لكنه في لبنان أصبح ملكًا خاصًا لأصحاب النفوذ والمشاريع الاستثمارية.
• أكثر من 60% من الشاطئ اللبناني مصادر لصالح المنتجعات الخاصة، مما يمنع المواطنين من الوصول إلى البحر دون دفع رسوم دخول مرتفعة.
• العديد من الشواطئ العامة، مثل شاطئ الرملة البيضاء، شط الضبية، وشط صور، تحولت إلى مشاريع سياحية مخالفة للقانون، بينما تُهدم الأكواخ التي يستخدمها الصيادون والفقراء.
• التعديات طالت البحر نفسه، حيث تم ردم أجزاء من الساحل لإنشاء فنادق ومنتجعات فاخرة، مثل ما حصل في زيتونة باي في بيروت، حيث تم الاستيلاء على الأملاك البحرية العامة لصالح مشروع خاص.
القانون اللبناني، وتحديدًا المرسوم 144 الصادر عام 1925، يؤكد أن الأملاك البحرية هي ملك عام لا يجوز التصرف به، لكن للأسف، يتم الالتفاف على هذه القوانين عبر تسويات سياسية وصفقات مشبوهة.
السكك الحديدية : من ملك عام إلى ملك خاص؟
في الماضي، كان للبنان شبكة سكك حديدية تربط بين مدنه، وتشكل شريانًا اقتصاديًا واستراتيجيًا مهمًا. لكن اليوم، تحولت هذه السكك إلى أملاك خاصة أو مناطق مهجورة، رغم أنها لا تزال قانونيًا ملكًا عامًا.
• في بيروت وطرابلس، تم تحويل بعض مسارات السكك الحديدية إلى مستودعات خاصة، أو تم البناء فوقها بشكل غير قانوني.
• في حالات أخرى، استولت بلديات ومسؤولون نافذون على الأراضي التابعة للسكك الحديدية، وحولوها إلى مشاريع سكنية أو تجارية.
• هذا التعدي على الملك العام يحرم لبنان من أي فرصة مستقبلية لإحياء مشاريع النقل العام المستدام.
التعديات على المحميات الطبيعية والبيئة
محمية صور : نموذج لاستغلال البيئة لمصالح خاصة
تُعتبر محمية صور واحدة من أهم المناطق البيئية في الشرق الأوسط، حيث تضم بيئة بحرية نادرة وأراضي رطبة تُعد موطنًا للطيور المهاجرة والسلاحف البحرية المهددة بالانقراض. لكن هذه المنطقة تتعرض لتعديات خطيرة تهدد وجودها.
في منطقة برج الشمالي، القريبة من المحمية، تم تأجير أراضٍ حكومية لمشاريع استثمارية يسيطر عليها رجل الأعمال قاسم تاج الدين، في صفقة بلغت قيمتها 25 مليون دولار. هذه المشاريع لم تخضع لأي دراسات بيئية، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للمحمية، في انتهاك صارخ للقوانين المحلية والاتفاقيات الدولية.
كارثة المقالع والكسارات في الشمال
لا تقتصر الانتهاكات البيئية على الجنوب، ففي الشمال اللبناني، تشهد مناطق مثل الكورة وشكا تدميرًا ممنهجًا للطبيعة بسبب المقالع والكسارات غير القانونية.
• المصانع الإسمنتية في شكا تعتبر من أخطر مصادر التلوث في لبنان، حيث تنتج انبعاثات كيميائية سامة تتسبب في أمراض تنفسية وسرطانية لسكان المنطقة.
• المقالع غير القانونية تواصل اقتلاع الجبال وتدمير الغابات، مما يؤدي إلى انهيارات أرضية وكوارث بيئية.
نهب الإرث الحضاري والتعديات العمرانية
آثار لبنان : تاريخ مغلوط وحضارات أقدم من الرومان
عندما نتحدث عن آثار لبنان، يختزل البعض تاريخه بالحضارة الرومانية، متناسين أن هذه الأرض كانت موطنًا لحضارات أقدم بكثير.
• حجرة الحبلة (بعلبك): هذه الكتلة الصخرية العملاقة ليست من العصر الروماني، بل تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، كما تشير المخطوطات السومرية المترجمة. يعتقد أن هذه الأحجار كانت جزءًا من منشآت ميغاليثية ضخمة، تسبق الفينيقيين أنفسهم.
• قلعة بعلبك: رغم أن الرومان أعادوا بناء القلعة، إلا أن أساساتها الحجرية تعود إلى حقبة ما قبل التاريخ، وتشبه تقنيات البناء الموجودة في حضارات قديمة كالسومريين والأكاديين.
• معبد أشمون (صيدا): تحفة معمارية تعود للفينيقيين، تعرضت للإهمال والتعديات، رغم أنها من أقدم المعابد المكرسة للشفاء في العالم.
سرقة الآثار والتعديات العمرانية
• تعرضت مواقع أثرية هامة في صور وبعلبك لسرقات منظمة، حيث تم تهريب قطع أثرية نادرة إلى الخارج.
• في طرابلس وصيدا، تمت إزالة أجزاء من الأحياء التاريخية لصالح مشاريع تجارية.
• الإهمال أدى إلى تدمير العديد من القلاع الأثرية بسبب الظروف المناخية، مثل قلعة “سمعان” وقلعة “دوبيه” في عكار.
خطوات عملية لحماية لبنان
١- استعادة الأملاك العامة
• تطبيق المادة 58 من قانون البيئة لتجريم التعديات على الشواطئ والسكك الحديدية.
• فرض غرامات مالية ضخمة على كل من يستولي على أملاك الدولة بشكل غير قانوني.
• تحويل الشواطئ اللبنانية إلى مناطق عامة مفتوحة مجانًا، كما هو الحال في معظم دول العالم.
٢- حماية البيئة والآثار
• تفعيل برامج حماية المحميات الطبيعية من الاستثمار غير القانوني.
• إطلاق حملات توعية لتعريف اللبنانيين بحقوقهم البيئية.
• فرض رقابة دولية على تهريب الآثار اللبنانية لمنع نهب التراث.
٣- تطوير وسائل النقل العام
• إعادة إحياء مشروع السكك الحديدية كوسيلة نقل مستدامة.
• فرض ضرائب على الشركات التي تضر بالبيئة لتمويل مشاريع النقل العام.
لبنان ليس للبيع
أملاك الدولة، سواء كانت الشواطئ أو السكك الحديدية أو المعالم الأثرية، ليست ممتلكات شخصية لأصحاب النفوذ. الحفاظ عليها هو مسؤولية جماعية، وإذا لم نتحرك الآن، فقد نفقد لبنان الذي نعرفه إلى الأبد.