إيتل عدنان ها أنتِ ترسمين الشعر تكتبين جبل الليل وتبلسمين خواء العالم

أستظلّين في غيابكِ تكافحين من أجل الأمل القتيل بين أيدينا المضرّجة بلبنان ؟

بقلم عقل العويط

إيتل عدنان غادرتنا في الرابع عشر من تشرين الثاني 2021. عامٌ مضى على الغياب، لكنّ أنسنتها العابرة الزمان والمكان، وكذا شعرها ورسمها، وحبّها الكونيّ، وكفاحها، تجعل إرث هذه المرأة بمثابة رغيفٍ للحياة المقبلة، بل منارة لمواهب الخلق والأمل والحبّ والحرّيّة.

كأمسِ الذي عبر. كاليوم. كهذا اليوم. ومثله غدًا. طويلٌ هو الليلُ، يا إيتل. الليلُ طويلٌ طويل. هو ليلُنا، يا أختي، وليس ليل الشعر. الكلمات لا يؤلمها أنْ تحيا في الليل، في الدكنة المظلمة، في الصمت، في العزلة، في الوحشة، ولا يضيرها أنْ تكون بلا منزلٍ، بلا بيت. تكفيها أحلامها، الكلمات، فتكون لها أرواحًا والثياب. وإذا ثمّة عراءٌ فهو مستحبٌّ. وإذا ثمّة يأسٌ فهو مختبرٌ لصلابة الروح وآنيةٌ للأمل. وإذا ثمّة دمعٌ فهو كجرن المعموديّة كماءٍ لشجرةٍ في صحراء هذه الحياة.

كم تشبهين الكلمات، يا إيتل. الكلمات ما قبل الحداثة، الكلمات التي في خضمّ الحداثة، وتلك التي في عالم الميتافيرس. لا يؤذيكِ ليلٌ لا ينال منكِ ضيمٌ ولا تستولي عليكِ ضغينة. تكفيكِ الأنسنةُ والهجسُ الكونيّ وأخوّةُ الوئام القلبيّ وكفاحاتُ الجبال والأنهر والظلال والأقمار والمراعي وهواجس الينابيع والأطفال، فلا تتنازلين للظلم ولا للهول الوجوديّ، ولا ترضخين للحَرّ ولا للعطش ولا للقرّ ولا حتّى للنعاس للموت.

كالكلمات، كلّما نظرت الكلماتُ إلى أجسامها استمدّتْ من أجسامها شهوة الكلمات وعطورها.

أقرّظ الكلمات لأنّي وُلدتُ – مثلكِ – بكلمة، كما يولد حبٌّ في الغفلة الكونيّة.

ليلُنا طويلٌ، يا أختاه.

الشمس لا تشرق في بلاد الشروق. ولا الفجر يعرف طريقه إلى الهبوب. أهو وجعٌ، أهو توعّكٌ، يعتري شمسنا، أم، يا ترى، يكون هكذا هو الموت. لستُ مكفهرّ الوجه لستُ مكفهرّ القلب، لكنْ يؤلمني أنْ أحمل أخبارًا، كمثل التي لا تليّن فظاظة الغربة، ولا تزيّن الأثاث بالكتب باللوحات بالموسيقى لترتيب الوحشة في الإقامات الجبريّة.

قولي شيئًا عمّا ترسمينه الآن عمّا تكتبينه الآن. ألا يجدر بي أنْ أقيم لكِ معرضًا أنْ أنشر لكِ ديوانَ شعر – في بيروت – أنْ أخطب في الناس متحدّثًا عن أدب الأنسنة في معانيكِ أنْ أحذّر من موت الأنسنة وأنْ آخذكِ في نزهةٍ قليلةٍ خارج الوقت خارح المكان. فلنشرب القهوة عند المنارة عند طلعة الجبل في المقهى القريب من البيت. فلنتمشَّ قليلًا. أعرف أنْ ركبتيكِ لا تقويان على الوقوف على المشي. سآخذكِ برفقٍ بتحنانٍ مثلما يؤخذ شغفٌ بالبداهة، وبرهانٌ بالقلب. سأروي لكِ قصّةً قصيرة عن كآبات بيروت عن الشوارع الهزيلة عن أحوال صديقي كوبر كيف ينصت إلى الأشعار كيف ينظر إلى حيطان الرسوم كيف يعزّيني لئلّا أتهاوى من عل. الكتاب الذي يقرأني بخطّكِ العربيّ مرسومًا برسومكِ، يضعني على رأس شجرة ويدعوني إلى الابتسام إلى رؤية الحبّ الكونيّ إلى التنعّم بصداقات الشعر والحرّيّة.

ما أجملكِ تجعلين لقمةَ الخبز خميرةً للمعذّبين في الأرض وأرغفةً مكثّرةً لأيّام الذلّ. لا أعرف أين تنامين الآن. أعرف أنّكِ تعثرين عليَّ بين ركامات الأرض وتُنهِضينني إلى جبل المكمل إلى جبل تملبايس إلى جبل الزيتون إلى محترفكِ لأجلسَ بجانبكِ فيهدأ الروع. لا تلومينني، يا إيتل، لأنّي أشعر بالظلم بالغبن بالعار بالتهلكة. ليس في وسعي أنْ أصدّق مواسمَ بعيدةً لا تزهر لا تَعِدُ بالازهرار. في وسعي أنْ أظلّ أشقى من أجل تسطير رسائل إلى الأطفال لكي يظلّوا أطفالًا. وإلى الثكالى من أجل أنْ يثأرن أنْ ينتقمن. وإلى الشعراء من أجل أنْ يثبتوا أمام هذا اللغو الراعب. يدكِ التي على رأسي تمنحني سرّ المغناطيس. لن أتهاون، يا إيتل، في أمورٍ كهذه. لن أصير شاهد زور، ولا عود ثقاب لإضرام الحرائق في الغابات. ليس في مقدوري أنْ أصير برغيًا في الآلة، في آلة هذا العطب الكونيّ المميت.

إنّي على عجلةٍ من أمري، يا إيتل. إنّي على عجلةٍ من أمري، ولا أعرف لماذا. أُردّد اسمكِ كما لو كنتُ هذيانًا أو مصابًا بحمّى. أهو الهجس بأنّ الآتي سيأخذ الكتب والجرائد والموسيقات إلى الهاوية. أهو حدسي بأنّ لا مفرّ من سدوم من عمورة لتبدأ اللغة من جديد. أكبرُ من قدرتي أنْ أستسلم لهذا التخرّص لهذا الوباء. سأجلب لكِ الآن كأسًا من الماء سأطلب من المغنّي من عازف البوق أنْ يطلقا العنان لموسيقى الجاز لتخفّف عنكِ هذا الألم هذا الجفاف في الحلق في الرئتين. من الممتع حقًّا أنْ ننصت معًا إلى العصفور الذي على النافذة، أنْ نراقب عينيه جناحَيه، أنْ ننخرط في احتفاله البريء قبل أنْ يطير ليحطّ على قرميد الكنيسة.

هل حقًّا لن يكون في مقدوركِ أنْ تلقي الشعر في حفلة المساء المقبل؟

هل حقًّا لن يكون في وسعكِ أنْ تخاطبي البيوت والشهداء والأرامل والأطفال والمدينة المهزومة؟

هل حقًّا أنّكِ لن تسافري معنا إلى لبنان لنراقبَ انشغال البحر بالنوارس الجائعة إلى الجثث الطافية على بساطٍ من دموع المرفأ المطعون بحربة الغدر والجريمة؟

الركام الركام، يا إيتل. ماذا أفعل بكلّ هذا الركام؟ ماذا أقول للذين يغدقون الضوء على الساحة في الليل للذين ينادمون الشهداء لئلّا يأخذهم النعاس إلى غير رجوع؟

سأحضّر لكِ فنجانًا من الشاي لأنّكِ تشعرين بالبرد. أتريدين حبّتَي بانادول لتخفيف أوجاع الجسد المثقل بهموم السنين؟ قولي شيئًا يا إيتل كي لا أبكي. أسمِعيني مقطعًا قصيرًا من قصيدة الليل الفائت. أريني لوحتكِ الأخيرة. لن أقول لأحدٍ – بل يجب أنْ أقول للجميع – إنّي زرتكِ اليوم، لأتفقّد وصيّتكِ إلى الأطفال إلى النساء إلى الحرّيّة. لن أفتعل صخبًا يؤذي عينيكِ الكليلتَين. سأمشي حافيًا من أجل أنْ لا أخدش صمتكِ المهيب. يمكنني أنْ أبقى معكِ طوال العشيّة طوال الليل من دون أنْ أنبس. أكثر ما يهمّني، أنْ أرنو إلى الماء الذي يسيل من عقلكِ الباطن، أنْ أحفظه في كأس، لتوزيعه على الحياة في أزمنة القحط الشعريّ. أنْ، أيضًا، أسطّر على ورقةٍ بالقلم الرصاص ما يرتجف على شفتيكِ من صلواتٍ مدنيّة. يمكنني أنْ أقرأ تمتمات شفتيكِ من دون صوت. يكفيني أنّكِ تمنحنين الكرامة البشريّة إكليلها المظفّر. أنّكِ تجرّدين المشهد من إضافاته المبتذلة من المعاني السوقيّة من الضجيج الذي يقلق الموسيقى والفراشات وإيقاعات الأنسام.

هذه الشجرة تتذكّر قصيدتكِ تتذكّر لوحتكِ. إنّي أشكرها الآن لأنّها لا تنسى. ولأنّها تسأل خاطركِ بانتظام. أليس جميلًا أنّ الشجرة تحبّكِ، يا إيتل؟

هل تريدين منقوشةَ صعتر حبّةَ زيتون ورقةَ نعناع ليكون الصباح قادرًا على مراكمة شمسه الطريّة في حياتكِ الموحشة؟ هل تريدين زورقًا صغيرًا في المشهد البحريّ الذي يخطر في البال، من أجل أنْ يفرح الزورق ببريق عينيكِ المهمومتَين بوجع الكوكب الأرضيّ؟

قولي شيئًا من أجلي، يا إيتل. أطلبي منّي قمحًا أنثر حبوبه بين أثلام التربة اليتيمة. قولي شيئًا إكرامًا للصحبة للأخوّة. هل أجلب لكِ طائرةً ورقيّةً لمسايرة الغيوم لاستفزاز النسيم الكسول لتنبيه الأولاد إلى ضرورة عدم تفويت أيّ فرصةٍ للهو للعب للضحك على مكر هذا العالم؟

ماذا أحبّ ماذا أشتهي، ها أنتِ تطرحين عليَّ السؤال؟ أنْ أحفظ كتبكِ ورسومكِ، أنْ أكافحَ باسمكِ، أنْ أستنهض بيروتكِ ولبنانكِ، أنْ أشرب كأسًا من النبيذ في المقهى، وأيضًا في شقّتكِ الباريسيّة، أنْ أخاطب الكنبة التي كنتِ تجلسين عليها، أنْ أفتح النوافذ لأقول لباريس صباح الخير نهاركِ سعيد أيّتها المدينة المحبوبة.

لقد طفح الكيل، يا إيتل.

أنا في العادة، أكتم يأسي من الشرط البشريّ. لكنّي يائسٌ من هذا الصلف الأمميّ من هؤلاء البشر. إنّي أعترف لكِ شخصيًّا بهذا السرّ، لا للناس، ولا بصوتٍ عالٍ. أخشى أنْ ينصت الأجنّة في أرحام الأمّهات إلى مثل هذا الهول الصافع، إلى هذا اليقين الفلسفيّ، فيتمنّى الواحد منهم أنْ يبقى في أحشاء أمّه لئلّا يكون فريسةً إضافيّةً على مائدة هذا الهول. لن أكتب للجريدة كلامًا من هذا النوع فيكون في متناول القرّاء في متناول الرجال في متناول النساء في متناول الشابّات والشبّان. لن أتيح للأهل للإبن للأصدقاء للرفاق للنساء اللواتي في أسرار قلبي أنْ يعرفوا ما بي من حطامٍ ومن عطب. أُفضّلُ مليون مليون مرّة أنْ أظلّ أقول الشعراء هم أساتذة الأمل، على أنْ أرتكب مثل هذه الكذبة البيضاء. أربأ بعقلي بقلبي أنْ يكاشفا الملأ بمثل هذه الحقيقة الدامغة. سأظلّ أقنع المكافحين بلزوم نبذ اليأس، فقط من أجل أنْ تظلّ تنمو عشبةٌ في الزمهرير، أنْ تظلّ تُجترَح ابتسامةٌ ضئيلةٌ تكشح العتمة، أو من أجل كذبة الأمل البيضاء فحسب.

نعم، يا إيتل، سأظلّ أكذب من أجل هذا الأمل القتيل بين يديَّ المضرّجتَين بخراب لبنان.

إنّي لا أبكي الآن، يا إيتل. كلّا. لكنْ أخشى أنّ في عينيَّ دموووووووعًا معمِّرةً منذ الأزل.

أعَيبٌ، يا أختي، أنْ يولد طفلٌ في عينيه دموع.

أعارٌ أنْ يذرف رجلٌ في هذا العمر دموعًا خرِبةً خرقاء؟

كلّ الآبار مثقوبة القعر، يا إيتل، فأين تُصرَّف هذه الدموع أيّتها الشاعرة، وليس من بئرٍ تُحفَظ فيها دموع؟!

وبعد،

نحن بخير، يا إيتل، على الرغم من كلّ شيء. لن نسمح للعطب الخطير بأنْ يستولي على الأرواح. أتريدين قَسَمًا منّي؟ إليكِ هذا البرهان:

في هذه اللحظة، يتقدّم منّي طفلٌ هامسًا في قلبي سائلًا: في الرابع عشر من تشرين الثاني، قبل عامٍ من الآن، تركتْ إيتل كرسيّها في باريس وفي العالم وحيدًا لتذهب إلى بلاد أين. أتعرف إلى أين، أيّها الشاعر؟

في العادة، كانت تغادر إلى كاليفورنيا، قلتُ له، إلى جبل تملبايس، إلى بيروت، إلى منارة بيروت، إلى منطقة النورماندي، إلى بلاد البروتون. لكنّها خلافًا للعادة، غادرتْ إلى غير رجوع. إلى القصائد إلى الرسوم إلى الموسيقى إلى الحرّيّة المطلقة إلى الرحابات الكونيّة الخالصة من كلّ رياءٍ ومن كلّ خيبة، إلى حيث لا تطمئنّ الروح إلى مكان، ولا هي تلبث في مكان.

أجابني الطفل بيقين عينيه كمَن لا يستفهم كمَن لا يحتاج أنْ يسأل: أإلى حيث، إذًا، أغادر كلّ يوم، لأحفظ طفولتي، لأتذكّر المكان الذي أقمتُ فيه قبل أنْ أكون؟ ولأظلّ قادرًا على مقاومة الضراوة اللامحتملة والانتصار على الوحش؟

نحن هنا بخير، يا إيتل، على الرغم من كلّ شيء. وسنظلّ نكافح بالشعر بالأمل بالحبّ بالحرّيّة، ما دمنا هذا الطفل الذي يتذكّر- بل يحفظ – المكان الذي أقام فيه قبل أنْ يكون. سلامي إليكِ يا أختاه.

اخترنا لك