بين الخطاب الوزاري وأرض الواقع : البرلمان أمام مسؤولية تاريخيّة تغييرية

بقلم كوثر شيا

مع كل حكومة جديدة، تتكرر وعود الإصلاح والتنمية، وتعود نفس الملفات إلى الواجهة: الكهرباء، النقل، الاقتصاد، مكافحة الفساد، استعادة أموال المودعين، وضمان العدالة الاجتماعية. لكنَّ هذه الوعود غالبًا ما تصطدم بالتعطيل السياسي والتنافس بين الوزارات، مما يُفرغ الخطط من مضمونها.

اليوم، لا مجال لإضاعة الوقت. فإما أن يتحول الخطاب الوزاري إلى خطوات تنفيذية ملموسة، أو يبقى مجرد نصٍّ يُضاف إلى أرشيف الوعود. هنا، يأتي دور البرلمان ليس فقط في الرقابة والمحاسبة، بل في تحفيز التعاون الحكومي وضمان تنفيذ الخطط المطروحة. فكيف يمكن تحقيق ذلك؟

إصلاح الكهرباء: لا مجال للمماطلة بعد اليوم

يُعتبر قطاع الكهرباء واحدًا من أبرز محاور البيان الوزاري، وهو الملف الذي لطالما استنزف خزينة الدولة وأرهق المواطنين بالعتمة والفواتير المرتفعة. الحكومة تعهدت بزيادة التغذية الكهربائية وتحسين الجباية، ولكن:
– كيف سيتم تأمين التمويل اللازم لمشاريع الطاقة المتجددة؟
– متى سيتم تطبيق خطة إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان؟
– هل هناك آليات واضحة لمنع الفساد في العقود الجديدة المرتبطة بالطاقة؟

على النواب تشكيل لجنة متابعة خاصة بهذا الملف، تجتمع شهريًا مع وزير الطاقة لمراقبة تنفيذ الخطط وضمان الالتزام بالمواعيد المحددة. لا يمكن القبول بمزيد من الوعود دون تنفيذ، فالكهرباء ليست رفاهية، بل حق أساسي لكل مواطن.

الاقتصاد والمالية: استعادة أموال المودعين أولوية قصوى

ذكر البيان الوزاري ضرورة إيجاد حل عادل وشامل لمسألة الودائع المصرفية، ولكن هل هناك خطة واضحة لاستعادة أموال المودعين؟ أم أن الأزمة المالية ستظل تُدار عبر مسكنات مؤقتة؟
– ما هي الآليات المطروحة لضمان توزيع عادل للخسائر بين الدولة والمصارف والمودعين؟
– كيف سيتم ضبط الانهيار المستمر لليرة اللبنانية؟
– هل ستُطبَّق الإصلاحات اللازمة لاستعادة ثقة المجتمع الدولي وتفعيل الاتفاق مع صندوق النقد؟

لذلك، على النواب الضغط لسنّ قوانين تُلزم المصارف بإعادة هيكلة ديونها وتوضيح مصير الودائع، بدلًا من ترك الأمر رهينة المفاوضات السياسية. كما يجب أن تكون أي خطة اقتصادية شفافة وواضحة للرأي العام، منعًا لتكرار سيناريو الهروب من المسؤولية.

مكافحة الفساد: محاسبة حقيقية أم شعارات متكررة؟

لطالما كان “مكافحة الفساد” شعارًا في كل بيان وزاري، ولكن الشعب لم يرَ حتى اليوم مسؤولًا كبيرًا وراء القضبان. إذا كانت الحكومة جادة في هذا الملف، فهناك إجراءات عاجلة يجب أن تُتخذ فورًا:
– إلغاء الحصانات عن جميع المسؤولين السابقين والحاليين في قضايا الفساد الكبرى، وعلى رأسها ملف انفجار مرفأ بيروت.
– تفعيل القضاء المستقل، بحيث لا يبقى مرتهنًا للتدخلات السياسية.
– الشفافية المالية في العقود الحكومية، عبر نشر جميع الصفقات والمناقصات في منصات إلكترونية متاحة للجميع.

يتوجب على النواب فرض رقابة صارمة على تنفيذ هذه الإصلاحات، وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة في الملفات المالية الكبرى، بدءًا من الأموال المنهوبة وصولًا إلى التدقيق الجنائي في مصرف لبنان.

تعزيز الحماية الاجتماعية: هل يتحقق حلم الدولة العادلة؟

تعهد البيان الوزاري بتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي، لكن من دون خطة واضحة، تبقى هذه التعهدات مجرد أمنيات. هناك نقاط يجب على الحكومة الإجابة عنها بوضوح:
– كيف سيتم تمويل برامج الحماية الاجتماعية في ظل الأزمة المالية؟
– متى سيتم توسيع التغطية الصحية وضمان وصول الفئات الأكثر ضعفًا إلى العلاج المجاني؟
– هل ستتم إعادة هيكلة الضمان الاجتماعي بحيث يصبح أكثر كفاءة وعدالة؟

وبدلًا من انتظار الحكومة، على النواب اقتراح قوانين تُلزمها بتوفير تمويل مستدام لبرامج الحماية الاجتماعية، سواء عبر الضرائب التصاعدية أو إعادة توجيه الدعم إلى مستحقيه الفعليين.

تعزيز التعاون بين الوزارات: لا تنمية من دون تكامل

واحدة من أكبر معضلات الحكومات السابقة كانت غياب التنسيق بين الوزارات، مما أدى إلى هدر الوقت والموارد. هذه الحكومة مطالبة بالعمل بروح الفريق، خصوصًا في الملفات التالية:
– الطاقة والبيئة: التحول إلى الطاقة المتجددة يجب أن يتم بالتنسيق بين وزارة الطاقة ووزارة البيئة لتجنب أخطاء الماضي.
– التربية والعمل: لا معنى لإصلاح التعليم إذا لم يكن مرتبطًا بحاجة سوق العمل، لذا يجب أن يكون هناك تعاون دائم بين الوزارتين.
– الداخلية والعدل: ضبط الأمن لا يكون عبر الإجراءات الأمنية فقط، بل يحتاج إلى إصلاح قضائي يضمن المحاسبة العادلة.

يجب أن تُفرض جلسات استماع مشتركة تضم الوزراء المعنيين بكل ملف، بحيث يتم تقييم الأداء بشكل دوري، وإجبارهم على العمل المشترك بدلًا من الجزر المنعزلة.

حماية الحريات والإعلام: ركن أساسي للدولة الحديث

أكد البيان الوزاري على “احترام الحريات الأساسية”، لكن هل ستُترجم هذه العبارة إلى أفعال؟ في الفترة الأخيرة، شهد لبنان تزايدًا في استدعاء الصحافيين والناشطين، مما أثار مخاوف من التضييق على حرية التعبير.
– هل ستتم حماية الصحافيين من الضغوط السياسية والقضائية؟
– هل سيتم تعزيز قوانين تحمي حرية الإنترنت ووسائل الإعلام المستقلة؟
– هل ستُلغى القوانين القديمة التي تُستخدم لقمع المعارضين والناشطين؟

لذلك، يجب أن يكون البرلمان حصنًا للحريات، عبر سنّ قوانين تُجرّم التضييق على الإعلام، وتضمن حق المواطنين في التعبير الحر من دون خوف من الملاحقة.

في النهاية لبنان الجديد يبدأ اليوم!

ليس أمامنا خيار سوى النجاح. لبنان، هذا الوطن الذي صمد رغم الأزمات، لا يمكن أن يبقى رهينة الماضي. المستقبل لا يُبنى على الانتظار، بل على القرارات الحكيمة، والتخطيط العلمي، والتعاون الحقيقي بين جميع القوى الفاعلة. لدينا العقول، والموارد، والإرادة، وكل ما نحتاجه هو تجاوز الخلافات والعمل معًا من أجل وطن حديث، مستدام، يُحاكي تطورات العصر.

لكن لا يمكن للبنان أن ينهض دون معالجة إرث الماضي، وخاصة ما خلّفته الحروب من خسائر بشرية، واجتماعية، واقتصادية. سنوات طويلة من الصراعات تركت وراءها جراحًا لم تلتئم، وبنى تحتية متهالكة، وعائلات فقدت معيلها، وشبابًا فقدوا فرصتهم في التعليم والعمل. لذا، فإن النهضة الحقيقية تبدأ من:
– تعويض المتضررين وإطلاق مشاريع تعيد تأهيل المناطق المنكوبة.
– دعم جيل الحرب نفسيًا واقتصاديًا عبر برامج إعادة الإدماج، وتوفير فرص عمل تعيد لهم الأمل.
– تحقيق المصالحة الوطنية عبر العدالة الانتقالية، وكشف مصير المفقودين، وترسيخ ثقافة السلام.
– إعادة إعمار الاقتصاد وفق رؤية متكاملة، تضمن النمو المستدام وتُخرج لبنان من دوامة الأزمات.

كل مسؤول، سواء كان وزيرًا أو نائبًا أو مواطنًا، هو شريك في هذه النهضة. مسؤوليتنا اليوم أن ننتقل من ثقافة الإحباط إلى ثقافة الحلول، ومن منطق “لا شيء يتغير” إلى قناعة بأننا قادرون على التغيير. فلنحكم العقل، ولنُطلق العنان للإبداع، ولنجعل من لبنان نموذجًا يُحتذى به في التطور والازدهار.

المستقبل يُصنع الآن، فلنكن جميعًا صُنّاعه!

اخترنا لك