الدجّالون

بقلم عقل العويط

الشاعر يموت. فقط يموت. هذه هي مهمّتُهُ في الحياة. يحيا في الكلمات، في اللغة، في الأسلوب، في المعنى. ويموت حيًّا فيها. ليس في الضرورة أنْ تفيض روحه فيصير جثّة. فحقُّهُ أنْ يعيش. “صناعةُ” الشاعر هي هذه الحياة.

بعضهم يعتبر المهمّةَ هذه، موهبةً وجينةً. آخرون جلجلةً. ثالثون كابوسًا. رابعون خلاصًا. خامسون وسادسون وسابعون وهلمّ، أيًّا يكن.

الشاعر، شعرُهُ روحُ عينيه. وكينونتُهُ شاعرًا – إنسانًا، تحتلّه. تمثّله. تنوب عنه. حدّ، بعدذاك، قد لا يعود الشعر في “حاجةٍ” (تقريبًا) إلى شخص الشاعر. نزرُهُ القليل، فقط. الوجود المعنويّ يكفي. أمّا الشخص الآخر – وهو توأمُ الشاعر ونزيلُ كيانه – فقد يكون ما ومَن يكون.

الشاعر أيضًا – لأنّ شعرَه روحُهُ – قد لا يكتب البتّة. فيكون شاعرًا بأنْ “يشعر الوجود”، الشخصيّ والكونيّ، والطبيعة، والباطن، واللّاوعي، واللّاوجود، والعدم، مختصًّا بـ”التأمّل”، والجًا الطبقات، والمراتب، والأمكنة، والأزمنة، والأحوال، متفكّرًا فيها، جاعلًا الشخصَ الذي هو، هو الشعر والشاعر، لا الكلمات. هذه أيضًا مهمّةٌ. وصناعةٌ. وحياةٌ. فهو شاعرُ حياة. فما أشقاه. وما ألذّ.

الشاعرُ الذي يكتب، والشاعرُ الذي يشعر الوجود، صفاتُهُما الأخرى ثانويّةٌ، نافلةٌ، يمكن الاستغناء عنها، وقد تكون لزوم ما لا يلزم، إلّا باقتصادٍ شديدٍ للغاية. وهو اختصاصٌ شعريٌّ – وجوديٌّ – فلسفيّ، يُشترَط فيه ألّا يكون شيءٌ فيه يناقض شيئًا في كينونة الشاعر الإنسان، بل يتناغم وإيّاه.

الاقتصاد هذا، ثقافةُ، وعلمٌ، واختبارٌ، ومراسٌ، وميزانٌ، وإرهافٌ، وكرامةٌ، ونبلٌ، وفروسيّةٌ، وتواضعٌ، وعرفانٌ، وترفّعٌ. ومن شيم الاقتصاد أنّه يضارع البرق الشعريّ خطفًا وإيماءً وزهدًا وكتمانًا.

هناك شاعرٌ “ثالثٌ”، شعرُهُ يتناقض وشخصه. ما أصعبه شاعرًا إنسانًا. فصامٌ. وأيُّ فصام.

أمّا سوى ذلك، فمَن يحمل اعتباطًا صفة “شاعر”، فهو أيّ شيء. كلّ شيء. مقاولٌ ناجحٌ. سوى أنّه ليس شاعرًا. ولن يكون. ولو (أحدهم) بـ”نوبل” توقًا دائمًا، وبـ”غاليمار”، ولو (غيره) بدكتوراه فخريّة، بمنصبٍ جامعيّ، ووعدٍ بوزارة، وصحبة سلطةٍ ووزير.

في هذه الحال، وخارج كينونته شاعرًا بالكلمات و/أو بالتأمّل، أو بالفصام، سرعان ما ينزلق مغتصب الصفة، فيزلّ به العقل، مبتذلًا، رخيصًا، غليظًا، متشاوفًا، كراكوزًا، شذر النظرات، ثقيل الدم، بشع الروح، لاهثًا وراء الكومبينات، والصفقات، والتعظيمات، والمنابر، والتكريمات، والألقاب، والجوائز، والمناصب، والأموال، والترجمات، والكراسي. وأحيانًا يمكّنه “ذكاؤه المقاوِل” من أنْ يتقنّع (يرتدي القناع) فتنطلي “تجارته الفذّة” على مانحي الشهرة والنقّاد والجامعات والصحف والتلفزيونات والمسؤولين.

وآنذاك “يصل”، فتضيع المعايير، ويختلط حابل البزنس بنابل التزوير.
من هذه الطغمة، نماذجُ نرجسيّةٌ مَرَضيّةٌ وخطيرة، تجعل المرء يلعن الشعر والشعراء، ويتمنّى ألّا يُمنى يومًا بوصفه شاعرًا، كي لا يُجمَع مع أيٍّ من هذه الطغمة؛ الواحد منها إذا بُصِق عليه يقول أمطرتْ.

“العالم” ليس شاعرًا، وليس شعرًا. وليس أهلًا. وبهذه النقيصة، يسهل وقوع الدجل، ويكثر الدجّالون، وهم مراتب ومستويات، محلّيّة وعربيّة وعالميّة.
وها نحن في زمن الدجل والدجّالين. وفي أكثر من موضعٍ ومكانٍ مكين.

اخترنا لك