لبنان.. واقع جديد لا يحتمل المساومة

بقلم د. وجيه قانصو

نجح الحكم الجديد، الممثل بالرئيسين جوزاف عون ونواف سلام، في تجاوز عدة اختبارات صعبة، وتصويب وجُهة لبنان بفترة قياسية، وبأقل خسائر ممكنة، معتمداً في ذلك الجمع في ذلك، بين ما وفرته المتغيرات الإقليمية والمعطيات الدولية، من عناصر ضغط وقوة من جهة، وبين التعامل مع حساسيات الوضع اللبناني بحكمة وواقعية من جهة أخرى.

هذا النجاح حقق أمرين أساسيين، أولهما طي ثوابت وتوازنات مرحلة سابقة، لم يكن بالإمكان في السابق التفلت من تحكماتها وسطوتها. الأمر الذي يسهل انتقالاً سلساً إلى واقع سياسي جديد، ويمهد لنشوء تضامنات جديدة وخارطة قوى مختلفة في الداخل.

ثانيهما إخراج لبنان بنحو حاسم من عزلته العربية والدولية، ما يكفل عودة علاقات طبيعية وسوية مع المجال العربي، واعتماد العلاقات الدولية والنشاط الدبلوماسي، وسيلة أكثر فعالية واقل كلفة لضمان حقوقه السيادية وتعافيه الإقتصادي.

هو تموضع جديد يمثل خروجاً نهائياً للبنان، من لعبة النظام الإيراني في صراعه مع العالم بأسره، الذي هو في عمقه، صراع لبنان ضد مداه الحيوي وضرب لمصالحه، أي صراع لبنان ضد نفسه. ويمثل أيضاً خروجاً لإيران من لبنان مع كل ما يمثل نظامها من تمثلات إيديولوجية، وتأويلات دينية وادعاءات قيمية، أي خروج ما ينافي حقيقة لبنان نفسه.

الفجوة بين عنفوان هذه القوى ووعدها ووعيدها، وبين خياراتها وقدراتها الفعلية، أخذة بالاتساع والتعمق

رغم وجود العديد من مراكز قوة تابعة للمرحلة السابقة، التي ما تزال توهم نفسها وتوحي للآخرين، بقدرتها على إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة بعث موازين القوى السابقة، إلا أن هذا الادعاء بات فاقداً كل عناصر زخمه وأدوات تحقيقه. فالفجوة بين عنفوان هذه القوى ووعدها ووعيدها، وبين خياراتها وقدراتها الفعلية، أخذة بالاتساع والتعمق.

ما يعني أن الكثير من تحديات الحكم السابقة باتت عملياً وراءه، وصار بإمكانه الإنتقال من هاجس إزالة الموانع ورفع العقبات، إلى خلق واقع سوي فاعل ومنتج، ويحمل شروط الحياة الطيبة. لذلك لا يكفي في تجاوز المرحلة السابقة، عدم الإنجرار إلى مستنقعها أو الوقوع في فخ تجاذباتها، بل لا بد من ابتلاعها بالكامل داخل عالمها الجديد، من خلال فرض قواعد لعبة جديدة قادرة على توليد اصطفافات بديلة وخطاب سياسي آخر.

هذه التطلعات، التي فرضها خطاب القسم والبيان الوزاري المعتمد، تؤكد على أن الحكم الجديد، لا يتحمل رضوخه لأية تسويات أو مساومات، تعمد قوى المرحلة السابقة إلى فرضها عليه، عبر التهديد بالشارع أو توتير الاستقرار الأمني أو إرباك السلم الأهلي، كون المساومة أو التسوية مع هذه القوى، يسهل عودتها إلى قلب الحدث، بعدما باتت على هامشه، ويمنحها الاعتراف المجاني بمحوريتها في تشكيل المشهد السياسي بعدما سلبت منها التحولات الأخيرة القدرة على فرض معادلتها وشروطها.

الإستحقاقات المقبلة محكومة بالإيجاب، أي إثبات جدارة الحكم في البناء والإصلاح والنهضة وتأكيد السيادة

فإذا كانت استحقاقات المرحلة السابقة محكومة بالسلب، لجهة إزالة موانع عودة الدولة ورفع معوقات الإصلاحات الإقتصادية، فإن الإستحقاقات المقبلة محكومة بالإيجاب، أي إثبات جدارة الحكم في البناء والإصلاح والنهضة وتأكيد السيادة.

بالتالي لم تعد حصرية السلاح المطلب الأوحد للحكم الجديد، بل بات المطلب الأبعد، هو تأهيل الجيش تأهيلاً كاملاً للقيام بمهمته السيادية. ولم تعد محاربة الفساد هي الغاية النهائية للحكم، بل المطلوب تمكين رقابة مؤسسات الدولة وتفعيل القانون كي نضمن عدم عودة الفساد بأي وجه من الوجوه.

ولم يعد تعديل القانون الانتخابي ذروة ما نتوقعه من الحكم، بل نتوقع تفعيلاً للحياة السياسية، على أسس ديمقراطية فعلية لا شكلية. ولم يعد أفق الحكم التعافي الإقتصادي فقط، وإنما بناء إقتصاد الإنتاجية والوفرة والرفاه.

هذا لا يعني أن التحولات الجديدة خالية من المحاذير والمخاطر، فكل وضع جديد يحمل معه انفراجات وانفجارات، عناصر قوة وضعف. هو كأي شيء موضوعي في الخارج، لا يتصف بذاته: بالخير والشر، أو الجيد والرديء، أو الناجح والفاشل. فهذه صفات تلحق الفعل الإنساني، الموكل إليه حصراً، جعل الحياة الإنسانية إما روضة نعيم أو حفرة جحيم.

اخترنا لك