الهجرة القسرية في لبنان : هل أصبح الوطن مجرد ذكرى ؟

بقلم ميراز الجندي – كاتب سياسي

في السنوات الأخيرة، تزايدت ظاهرة الهجرة من لبنان بشكل غير مسبوق، حتى أصبحت جزءًا من القصة اليومية للكثير من اللبنانيين الذين أصبحوا عاجزين عن تحمل وطأة الواقع السياسي والاقتصادي الذي يعيشه وطنهم. لكن ما أصبح أكثر بروزًا هو نوع جديد من الهجرة التي لا تتعلق فقط بالبحث عن فرص أفضل في الخارج، بل عن الهروب من نظام سياسي فاسد وطائفي لا يوفر لهؤلاء أي أفق للعيش الكريم.

هذه الهجرة القسرية أو ما يمكن تسميته “الهجرة البصرية” تُعتبر مسألة مؤلمة، فبدلاً من أن يسعى اللبناني للبقاء في وطنه والعمل على تحسينه، أصبح هذا الوطن بمثابة قفص حديدي يعيق الجميع عن تحقيق أحلامهم وطموحاتهم.

الهجرة البصرية: ظاهرة باتت تلاحق الجميع

في عام 2006، جرت محاولات جماعية للهجرة بحثًا عن الأمل في الحياة الكريمة بعد تصاعد الأزمات في لبنان. الكثير من اللبنانيين حلموا بالهروب إلى أماكن توفر لهم فرصًا أفضل بعيدًا عن الحروب والفقر والفساد. لكن المفاجأة كانت أكبر مما توقعنا، حيث اكتشفنا أنه في الوقت الذي كان فيه آلاف اللبنانيين يقفون في طوابير الهجرة، كانت هناك مجموعة أخرى من اللبنانيين الذين يملكون جوازات سفر أجنبية، رغم ولائهم الواضح لمشاريع خارجية.

تقول القصة أن معظم هؤلاء المهاجرين كانوا من مؤيدي ميليشيات “حزب الله”، الذين كانوا في صلب محاولات توسيع نفوذ إيران في لبنان والمنطقة. هؤلاء المهاجرون، الذين يحملون جوازات سفر أمريكية أو أوروبية، كانوا قد وفروا لأنفسهم مخرجًا آمنًا عبر هذه الجوازات، في حين أن المواطن اللبناني العادي كان يكافح للبقاء في وطنه.

المفارقة كانت أنه في الوقت الذي كان فيه اللبناني يعاني من الظلم والعوز، كان هؤلاء أنفسهم يتنقلون بحرية بين البلدان التي يريدونها، تاركين وراءهم مواطنين علقوا في وطن لا يستطيعون مغادرته، ولا يملكون سوى حلم الهجرة الذي يعصف بهم يومًا بعد يوم.

التهجير السياسي والاقتصادي: من المسؤول؟

تعود جذور ظاهرة الهجرة القسرية إلى السياسات الخاطئة التي اتبعتها الطبقات الحاكمة في لبنان على مدار سنوات طويلة. حيث كان السياسيون يتلاعبون بالسلطة والقرار الوطني، في ظل نظام طائفي محاصصي ضيق الأفق. هذا النظام جعل من لبنان ساحة لصراعات خارجية وتكالبات دولية لم تكن في صالح المواطن اللبناني.

نتيجة لذلك، أصبح اللبنانيون في صراع دائم بين الولاءات الداخلية والخارجية، وبين الحاجة إلى تغيير واقعهم الأليم وبين القمع الذي يمارس عليهم من قبل السلطة.

الهجرة لم تعد خيارًا لدى كثير من اللبنانيين، بل أصبحت هروبًا من واقع لا يوفر لهم أي أمل في التغيير. تلك هي الهجرة التي فرضت نفسها على اللبنانيين، وليس اختياريّة بحثًا عن فرصة أفضل، بل كانت بسبب تعطل المؤسسات، وغياب الأمن الاجتماعي، والاقتصادي، والتهديد المستمر للحقوق والحريات.

من الهجرة إلى التهجير: الواقع الأليم

اليوم، عندما يتحدث البعض عن الهجرة، فإننا نرى في واقعنا نوعًا آخر من الهجرة، والتي توازي التهجير القسري. نعم، الهجرة أصبحت قسرية عندما يشعر المواطن اللبناني أنه لا يستطيع أن يعيش في وطنه بأمان وكرامة. فالشعب الذي يتحمل عناء السياسة الفاسدة، والفساد الذي يستشري في مختلف مؤسسات الدولة، لا يجد نفسه إلا أمام خيار الهجرة. وكأن لبنان قد أصبح مكانًا للتهجير القسري للذين يرفضون البقاء في قبضة السلطة الميليشياوية.

إن أكثر من 50% من اللبنانيين الذين تدهورت حياتهم إلى حد الهجرة يعكسون واقعًا مريرًا. هم لا يهجرون لمجرد البحث عن حياة أفضل، بل يفرون من وطنهم الذي كان يومًا ما رمزًا للحرية والعيش الكريم. الهجرة أصبحت في نظرهم الطريقة الوحيدة للنجاة من جحيم لا يعرفون له نهاية.

المستقبل المجهول: هل يمكن العودة؟

لكن يبقى السؤال الأهم: هل يمكن أن يعود اللبنانيون الذين هاجروا يوما ما إلى وطنهم؟ هل يمكن إعادة بناء لبنان ليعود مركزًا للحرية والازدهار كما كان؟ إن الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة. فالمعضلة ليست في الهجرة نفسها، بل في التغيير الجذري الذي يجب أن يحدث على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لقد عانى لبنان من حكومات فاسدة أعطت الأولوية للمصالح الشخصية والطائفية على حساب المصالح الوطنية. كان من السهل على الميليشيات والمجموعات المسلحة أن تزرع الفساد في مختلف المؤسسات، في الوقت الذي كان فيه المواطن اللبناني يدفع الثمن. فماذا بعد أن تعود الآمال المكسورة إلى الناس الذين هاجروا؟ هل سيكون المستقبل في لبنان أفضل، أم أنهم سيبقون بعيدين عن أرضهم بسبب الفساد المستشري؟

العودة إلى الوطن: مسؤولية الجميع

لبنان يحتاج إلى تغيير حقيقي. تغييرات هيكلية من أجل إعادة بناء الدولة من جديد على أسس صحيحة، بعيدًا عن الولاءات الخارجية والطائفية الضيقة. لا يمكن للمواطن اللبناني أن يعود إلى وطنه إلا إذا شعر أنه يستطيع العيش بكرامة وحرية. يجب أن يكون هناك ضمانات للمواطنين بأنهم سيعيشون في وطن يحترم حقوقهم ويعطيهم الفرصة لبناء حياتهم بعيدًا عن الميليشيات والسياسات الفاسدة.

لبنان لن يكون مجرد مكان للهجرة، بل يجب أن يعود إلى كونه موطنًا للسلام، العدالة، والتنمية. وكل لبناني يحق له أن يكون جزءًا من بناء هذا الوطن بعيدًا عن كل المؤامرات الخارجية والمصالح الطائفية. فهل يمكن أن نحقق هذا الهدف؟ الأمر في يد اللبنانيين أنفسهم، الذين يجب عليهم أن ينهضوا ويطالبوا بحقوقهم. لن تكون الهجرة حلاً مستدامًا، بل الحل يكمن في بناء وطن يُمكّن أبناءه من العيش بحرية وسلام.

اخترنا لك