بين الخيبة والأمل… لماذا لا تزال الثورة خيارنا الوحيد ؟

بقلم كوثر شيا

لم تكن الثورة في الشارع فقط، بل في داخلي أيضًا. كنتُ أشعر بالغضب، بالخذلان، بالأمل الذي يتراقص بين الانتصار والانكسار. رأيت في عيون الناس نفس الشرارة التي كانت تحرقني من الداخل: رغبة جارفة في التحرر، في العدل، في حياة لا تُشترى بالولاءات ولا تُباع بالصمت.

كنا نصرخ بأعلى أصواتنا، كأننا نحاول إيقاظ هذا الوطن من غيبوبته الطويلة. لكننا لم نكن نعرف وقتها أن الصحوة ليست نهاية الطريق، بل بدايته. الغضب وحده لا يكفي، والهتافات لا تصنع دولًا، والثورات التي تبقى حبيسة الشوارع تُهزم قبل أن تبدأ.

اليوم، بعد سنوات من تلك اللحظات التي غيرتنا، نقف أمام الحقيقة العارية: الثورة لم تكن عبثًا، لكنها أيضًا لم تكتمل. بين الخيبة والأمل، بين الإيمان والشك، بين الانتصار والانكسار… لا يزال لدينا فرصة. فرصة لنحوّل الغضب إلى بناء، والصحوة إلى تنظيم، والأحلام إلى خطط حقيقية.

لأن الثورة لم تكن لحظة، بل التزام. والطريق لم ينتهِ بعد.

الثورة بدأت بوعي… وتستمر بعمل

عندما خرجنا إلى الساحات، لم نكن نريد سوى وطن نحيا فيه بكرامة، نظامًا يحترم الإنسان لا أن يكون الإنسان مجرد وقود لاستمراره. لكننا تعلمنا أن الثورة ليست مجرد هدمٍ لمنظومة فاسدة، بل بناءٌ لنظام جديد أكثر عدلًا، وأكثر كفاءة.

وهنا نواجه السؤال الجوهري: من يحق له أن يكون جزءًا من هذه المرحلة؟

الإجابة ليست شعاراتية. فالثورة لم تكن يومًا حكرًا على من نزلوا إلى الشارع فقط، بل لكل من يؤمن بمبادئها. معيارنا اليوم ليس من كان معنا أو ضدنا في لحظةٍ ما، بل من هو قادر على المساهمة في بناء الدولة التي نحلم بها. لم نعد نرفض الأشخاص بناءً على انتماءاتهم، بل نقبلهم بناءً على كفاءتهم ومصداقيتهم.

لا نريد “دولة الثوار”، بل دولة القانون، التي تحاسب الجميع دون استثناء.

لكن القبول بمشاركة الجميع لا يعني التهاون. الفساد لا لون له، ولا يجوز تحت أي ظرف أن يُمنح الفاسدون فرصةً ثانية لإعادة إنتاج أنفسهم. المطلوب هو نظام رقابي صارم يضع الجميع – ثوارًا وغير ثوار – تحت المحاسبة العادلة. لأن الثورة التي لا تحاسب، تُسرَق.

التنظيم: السلاح الأقوى للثوار

الاحتجاج والغضب وحدهما لا يكفيان. لقد أثبتت السنوات الماضية أن الطاقة الثورية بدون تنظيم تُهدر، وتتحول إلى موجات متقطعة بدل أن تكون تيارًا مستمرًا يفرض التغيير. لذا، حان الوقت لننتقل من العمل الفردي العفوي إلى العمل الجماعي المنظَّم، من الهتاف إلى التخطيط، ومن المعارضة إلى الفعل.

ما نحتاجه اليوم هو منصة ثورية جامعة، ليست حزبًا سياسيًا بالمعنى التقليدي، لكنها إطارٌ تنظيمي يجمع أصحاب الكفاءة والإرادة، ويحوّل الحلم إلى خطط عملية.

هذه المنصة يجب أن تكون:
1. مجلسًا للحوار الاستراتيجي: نضع فيه الأولويات، نحدد المشكلات، ونصوغ الحلول بعيدًا عن الشخصنة والتشرذم.
2. منظمة للعمل الميداني المنظَّم: تشمل حملات تطوعية لدعم المجتمع، مثل تعزيز الوعي القانوني، مراقبة المؤسسات، والتدخل في المشاريع التنموية.
3. جسرًا بين الثورة والدولة: بحيث نقدّم الكفاءات ونساهم في الإصلاح، لا أن نبقى في موقع المراقب السلبي.

لا يمكن للثورة أن تستمر إذا ظلت مجرد فكرة، بل يجب أن تصبح قوة مؤسسية قادرة على التأثير واتخاذ القرار.

الشباب: وقود التغيير وقادة المستقبل

الثورات تبدأ بالشباب، لكنها لا تستمر إلا إذا أصبحوا جزءًا من صناعة القرار. حتى الآن، ما زال الشباب يُستخدمون كأداة احتجاج، بينما تبقى مراكز النفوذ مغلقة أمامهم. هذا لا يجب أن يستمر.

يجب أن يكون للشباب دورٌ أساسي في قيادة المرحلة المقبلة، ليس فقط عبر التظاهر، بل عبر تولي المسؤولية في المؤسسات التنفيذية والتشريعية. علينا أن نضمن أن نصف مقاعد البرلمان والإدارات العامة تذهب إلى الشباب، لأنهم يمثلون الأغلبية الفعلية في المجتمع.

لكن لتمكين الشباب، لا يكفي أن نطالب لهم بالمناصب، بل يجب أن نُعِدّهم لها. وهذا يتطلب:
• برامج تدريبية في القيادة والإدارة والسياسة، ليكونوا جاهزين لتحمل المسؤولية وليس مجرد رموزٍ للاستعراض.
• فتح المساحات لهم للمشاركة في الحكم المحلي، عبر البلديات والمجالس الشبابية، ليكونوا فاعلين لا متفرجين.
• إعادة الاعتبار للعلم والتخصص، فلا يُصبح مجرد الشارع هو من يحدد من يستلم المناصب، بل الكفاءة والمعرفة.

الشباب ليسوا مجرد “وقود” للثورة، بل يجب أن يكونوا مهندسي الدولة الجديدة.

الفساد لن يسقط بالكلام… بل بالإرادة والعمل

نحن نعرف أن الطريق ليس سهلًا، وأن القوى المستفيدة من الفساد لن تتخلى عن امتيازاتها بسهولة. لكن التغيير لم يكن يومًا سهلًا، ولم تصمد الثورات إلا عندما تحولت إلى مشاريع طويلة الأمد، لا مجرد ردود أفعال لحظية.

الفساد لن يسقط بالخطابات، بل بخلق نظام رقابة ومحاسبة شفاف ومستقل، لا يخضع لسلطة الأحزاب ولا يُستغل لتصفية الحسابات السياسية. والمطلوب ليس فقط كشف الفساد، بل تقديم البدائل، لأن المعارضة التي ترفض كل شيء دون أن تقدّم شيئًا، تتحول إلى ديكورٍ في مشهدٍ عبثي.

أعرف من خلال رحلتي في الثورة أن بيننا عقولًا متميزة، أشخاصًا لديهم الرؤية والقدرة، لكنهم مُهمَّشون لأنهم يرفضون المساومات. هؤلاء هم من يجب أن يكونوا في الصفوف الأولى، لأن الثورة ليست مجرد مظاهرة، بل هي التزام أخلاقي ومسؤولية تاريخية.

الدولة ليست عدوة… نحن جزء منها

أحد أكبر الأخطاء التي وقعنا فيها هو التعامل مع الدولة كأنها كيانٌ منفصلٌ عن الشعب، بينما الحقيقة أن الدولة هي نحن، ومؤسساتها يجب أن تكون في خدمة الجميع. لا يمكننا أن نكتفي بالمعارضة الدائمة، بل يجب أن نكون جزءًا من الحل.

لذلك، علينا أن نعيد رسم علاقتنا مع الدولة على أساس الشراكة المشروطة بالمحاسبة، بحيث:
• نشارك في إعادة بناء مؤسساتها، بدل تركها نهبًا للفساد.
• نكون جزءًا من المشاريع التنموية، لا مجرد منتقدين لها.
• نحمي الثورة من الداخل، بأن نكون قدوةً في النزاهة والكفاءة.

لسنا هنا لنحارب الدولة، بل لنحارب الفساد داخلها، لأننا نحلم بدولة قوية، عادلة، حديثة، تكون لجميع أبنائها.

في النهاية: الثورة لم تنتهِ… بل تتطور

الثورة الحقيقية ليست لحظةً ماضية، بل هي عملية مستمرة. لا يكفي أن نكون غاضبين، يجب أن نكون منظمين. لا يكفي أن نكشف الفساد، يجب أن نبني بديلاً عنه. لا يكفي أن نحلم، يجب أن نعمل.

لنكن أوفياء لمن ضحوا، ولنجعل الثورة ليست مجرد ذكرى، بل مشروعًا للمستقبل. مشروع دولة القانون، الكفاءة، والإنسان.

اخترنا لك