بقلم أحمد عياش
يمضي الأمين العام السابق لـ “حزب الله” حسن نصرالله اليوم إلى مثواه الأخير في الضاحية الجنوبية لبيروت.
وقرّرت قيادة “الحزب” أن يجري دفن نصرالله في قبر أعدّته خصيصاً في منطقة مميّزة في الضاحية، لكن رفيق الأخير أي السيد هاشم صفي الدين، الذي كان على وشك أن يحتلّ موقع نصرالله قبل أن تغتاله إسرائيل، سيمضي نعشه بعد التشييع إلى بلدته دير قانون النهر الجنوبية ليوارى الثرى هناك.
بات واضحاً أن “حزب الله” أراد من مواراة نصرالله في مدفن خاص في الضاحية، وهو ما لم يحظ به أي ممّن سبقه في قيادة هذا التنظيم منذ اكثر من 40 عاماً، هو تحويل المكان إلى مزار. ويتحدث البعض أنّ مدفن نصرالله سيصبح مزاراً كما هو حال الرموز لدى المذهب الاثني عشري الشيعي والذين تنتشر مدافنهم في عدد الأقطار لا سيما في العراق وسوريا ولبنان.
لم يختر نصرالله هذا التمييز في دفنه، أي أنّه لم يوص بذلك. لكن حسابات القيادة في بيروت وطهران شاءت. وبات واضحاً أن وظيفة مزار نصرالله الجديدة هو الإعلان عن استمرار “الحزب” معلماً للجمهورية الإسلامية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وسيتبيّن في جردة الحساب لما استثمرته طهران في نصرالله وحزبه على مدى عقود أن هناك ما يبرّر هذا التعظيم لموت شخص. ولو تسمح التقاليد لجرى تحنيط الراحل كما كان يفعل الفراعنة قبل آلاف السنين.
تظهر المفارقة في تشييع نصرالله اليوم مع رفيقه صفي الدين، بعد مضيّ نحو 5 أشهر على رحيلهما، أن اختيار مدينة كميل شمعون الرياضية مكاناً لهذه المناسبة، لم يأت من ميزات هذا الصرح الرياضي وإنّما لكونه بديلاً لكلّ الأماكن التي يفترض اعتمادها للتشييع. لكن ما العمل بعدما حوّلت حرب إسرائيل كل هذه الأماكن إلى مساحات من الدمار لا تصلح حتى للموت.
كما تظهر هذه المفارقة أن “حزب الله” وإيران من ورائه وجدا الإمكانات المادية واللوجيستية كي يبذلاها في تشييع مشهود، في وقت ما زالت تظهر أشلاء الذين قضوا نحبهم في المناطق الحدودية الجنوبية خلال حرب إسرائيل. وضاعت هويات هؤلاء الذين تبيّن أن عددهم يقدّر ببضعة آلاف بسبب تحلّل أجسادهم. ولو أراد “الحزب” أن يشيّع كل واحد من أصحاب هذه الأشلاء لأمضى أعواماً كي ينجز هذه المهمة.
فهل وصل “الحزب” ومن ورائه ايران إلى الحالة التي مرّت بها الأخيرة خلال الحرب مع العراق أيّام صدام حسين بحيث صدرت فتوى خمينيّة أنّ أجساد الألوف المؤلّفة من أجساد الفتية الإيرانية الذين قاموا بدور كاسحات الألغام على الجبهة تحوّلوا إلى “طيور الجنة”؟
أمّا في لبنان اليوم، فأصبحت كل المناطق الشيعية عموماً من الجنوب إلى الضاحية الجنوبية، وصولاً إلى البقاع ومعها بؤر منتشرة على امتداد لبنان بمثابة أماكن طائرة باستثناء مكان تشييع نصرالله ومكان دفنه. وللمناسبة، يقع المكانان قرب مطار رفيق الحريري الدولي الذي صار بديلاً للقدس. وأصبح المطار منذ أسابيع يحمل شعار “على طريق المطار” بدلاً من شعار “على طريق القدس” والذي كاد أن يتسبّب بـ “طيران” لبنان عموماً والطائفة الشيعية خصوصاً، بسبب قرار اتّخذه نصرالله بأمر المرشد علي خامنئي في 8 تشرين الأول عام 2023، أي في اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” في غلاف قطاع غزة ما أدى إلى كارثة مهولة في القطاع بشرياً وعمرانياً.
وتظهر المفارقة أيضاً وأيضاً، أن “حزب الله” ما عاد مهتمّاً بشيء إلا برفات أمينه العام. وأحال النتائج الكارثية التي حلّت بلبنان بسبب نصرالله نفسه ومشغّله الإيراني إلى الدولة اللبنانية التي بدأت تقارب ملف إعادة الاعمار بأرقام أوّلية تشير إلى أنّ المطلوب ما هو فوق الـ10 مليارات دولار أميركي، كي تبدأ ورشة العمل.
ويظهر “الحزب” بألسنة من تبقى من مسؤوليه على قيد الحياة، وأوّلهم الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، الشجاعة لتحميل الدولة هذا العبء الهائل، في وقت لا تزال الدولة في تقديرهم “الشيطان الأصغر” في خدمة “الشيطان الأكبر” الأميركي، كما جاهرت إحدى التابعات لـ”الحزب” في داخل حرم المطار أخيراً.
ماذا يريد خامنئي اليوم من مهرجان تشييع نصرالله؟ يقول خبراء إنّ “درة التاج” في مشروع إيران الخارجي لم يفقد وظيفته بعد. وحمل “حزب الله” صفة “درة التاج” منذ انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000. وبلغت هذه الصفة ذروتها بعد حرب عام 2006 فاعتبرت إيران أن “الحزب” بقيادة نصرالله حقّق “نصراً إلهياً” غير مسبوق. لكن نتائج حرب إسرائيل الأخيرة، والتي ما زالت مستمرة، أكدت أن “الحزب” يكاد أن يصبح في خبر كان. كما أن نصرالله نفسه لم يعد موجوداً.
ويقول الخبراء أيضاً، أن جمهورية خامنئي التي أصبحت عارية تماماً أمام الولايات المتحدة الأميركية في زمن الرئيس دونالد ترامب، وعاجزة تماماً أمام إسرائيل في زمن بنيامين نتنياهو، في حاجة ماسة لأي غطاء، ولو كان رفات نصرالله ومدفنه اللبناني، كي تقول لترامب ونتنياهو إنها ما زالت هنا على مقربة من شمال إسرائيل. كما تريد طهران أن تقول لواشنطن إنها مستعدّة لـ”التضحية” بنصرالله ومدفنه وكل من يأتي ليزوره إذا ما أعطت الإدارة الأميركية أي فرصة للحوار الأميركي – الإيراني كي ينتج اتفاقاً نووياً بأي ثمن تريده أميركا.
لكن، هل سيشتري أحد اليوم بضاعة إيران من التشييع إلى المدفن؟ هناك شكّ كبير حتى الآن في حصول طهران على سعر ولو بخساً. لكن مشكلة لبنان من المدينة الرياضية إلى مدفن نصرالله على طريق المطار، انه ما زال عليه ان يتحمل آثار البضاعة الإيرانية التي دخلت الأسواق اللبنانية منذ ثمانينات القرن الماضي وما زالت معروضة على الرغم من انتهاء صلاحيتها.
تستحق الصورة التي جمعت خامنئي ونصرالله في زمن العز التأمّل اليوم. وتستطيع المخيّلة أن توضح ما دار بين الرجلين من حوار. قال خامنئي: استثمرنا الكثير فيك يا عزيزي حسن. فأجابه نصرالله: “سيدي، لن يضيع استثمارك سدى”.
يقول لبنان اليوم لخامنئي: دفعنا ثمناً غالياً في هذا الاستثمار. وحان الأوان لينتهي”.