بقلم هشام بو ناصيف
وعد حسن نصراللّه الشيعة بالنصر وقادهم إلى نكبة تتوالى فصولها يوميّاً. منطقيّاً، ينبغي ألّا تسير وراء نعشه حشود منهم تبكي وتلطم. ولكنّ هذا ما حدث بالضبط. يطرح هذا الواقع السؤال التالي: لماذا يحافظ زعيم دفعت بيئته ثمناً باهظاً نتيجة مغامراته السياسيّة على شعبيّته فيها؟
السؤال ليس جديداً. انخرط كمال جنبلاط بالحرب الأهليّة اللبنانيّة وراهن على تحطيم ما اصطلح على تسميته بالمارونيّة السياسيّة بقوّة السلاح الفلسطيني. سقط مئات الشباب الدروز بمعارك مع جيرانهم المسيحيّين من أجل أيّ انتصار تحديداً؟ تهجير المسيحيّين من الجبل؟ هم عادوا لقراهم بعد الحرب.
تغيير موازين القوى بين الطوائف؟ هي تغيّرت فعلاً، ولكن لغير مصلحة الدروز؛ قدرة زعامة الطائفة على التأثير بالجمهوريّة الأولى قبل الحرب كانت أكبر منها بعدها.
من أجل ماذا إذاً تحمّس كمال جنبلاط للصراع الأهلي وأقحم شبابه بأتونه؟ استطراداً: بمواجهة حافظ الأسد، راهن كمال جنبلاط على السوفيات، والعرب، والفلسطينيّين، وأثبتت التطوّرات اللاحقة خطل كلّ حساباته. كان الثمن غالياً جدّاً عليه شخصيّاً، وبلاده، وطائفته. ولكنّ أسطوريّته فيها لم تمس إلى اليوم.
المسيحيّون ليسوا مختلفين. فكّر بتجربتهم مع ميشال عون. منذ العام 1975، سقط آلاف الشباب المسيحي دفاعاً عن منطقة، ولو كانت جيباً صغيراً، تمكّنهم من العيش بمنأى عن خيارات ليست خياراتهم تفرضها عليهم هويّات ليست هويّاتهم. ثمن بناء “الشرقيّة” بالحرب كان باهظاً، ولكنّ المسيحيّين بنوها.
ثمّ استولى ميشال عون على السلطة عام 1988، وخسر المجتمع المسيحي بعد سنتين من المغامرات العشوائيّة منطقة خاصّة به كان يمكن لها لو استمرّت أن تصير قاعدة جغرافيّة تفرض بالأمر الواقع حقّه بالحكم الذاتي. عون أيضاً وعد مؤيّديه بالنصر، وبـ”تكسير رأس حافظ الأسد”.
ولكنّ نتيجة سياساته كانت انتصار حافظ الأسد، وسقوط المنطقة الشرقيّة، وإعادة المسيحيّين إلى بيت طاعة لبنان الكبير المركزي، ليبدأ بعدها كابوسهم المستمرّ إلى الساعة. مع ذلك، بقي عون صاحب شعبيّة واسعة، وانتظرت جماهير مسيحيّة واسعة عودته من المنفى، قبل أن تعطيه سبعين بالمئة من أصواتها بانتخابات العام 2005.
تأليه القادة المهزومين ليس إذاً خاصّاً بالشيعة وحدهم. ولكنّ مشهد تفجّع المنتحبين على نصراللّه، بينما تحلّق الطائرات الاسرائيليّة على علوّ منخفض فوقهم، يعيد طرح سؤال علاقة الأيقونات اللبنانيّة بقواعدها. ما سرّ شغف الطوائف بمن ينكبها؟ لا أزعم أن لديّ جواباً.
ولكن يمكن المجازفة بما يلي: الوقائع السياسيّة لا تعني شيئاً بذاتها. المهمّ فهمها. وهذا الفهم تشكّله أربع نخب تفسّر للعامّة ما يجري حولها، عنيت النخب الأكاديميّة، والإعلاميّة، والسياسيّة، والدينيّة. والحال إنّ حراك كلّ هذه النخب ببلادنا يتواطأ لتشويه الوعي لا لتحفيزه. النشاط البحثي الأكاديمي عندنا شبه غائب. طبقة العاملين الذهنيّين المستقلّين عن الزعامات والقادرين تالياً على تفكيك سرديّاتهم ضعيفة وتأثيرها محصور.
أمّا الإعلام، فعموماً مستتبع. ومن زمن كرّس تلفزيون لبنان شاشاته لإطلالات ميشال عون آخر الثمانينات، إلى زمن إطلاق “حزب اللّه” إمبراطوريّة إعلاميّة حقيقيّة لاحقاً، دور الإعلام تحفيز إيمان حزبي شبه ديني بالزعامات. فإذا ما أضفنا إلى ذلك أنّ وظيفة النوّاب والوزراء الذين تصنعهم مرجعيّاتهم ترداد ما تقوله، وأنّ رجال الدين عموماً ميّالين للتماهي مع نخب طوائفهم، يصبح إقفال المشهد تامّاً أمام أي محاولة نقديّة. ثمّ أنّ طوائف لبنان يسكنها حذر متبادل، وخوف، وبغضاء عميقة. كلّ هذا بدوره يدفع باتّجاه أسطرة بطل الطائفة لا محاسبته.