بقلم زاهي البقاعي
ينبغي قراءة الوضع الإيراني في ضوء ارتطام مشروعها الإقليمي بجدران سميكة من الاستراتيجيات الدولية في المنطقة، ما يجعل متعذراً عليها اختراقها بالاستناد إلى ما راكمته من ملابسات وعوامل قوة سابقة. ما يوجب الانتقال إلى الموضوع الخارجي الذي تتراكب وتتداخل فيه عدة مستويات. أبرزها دون منازع الموقع الاستراتيجي لايران، أو تصورها لموقعها هي بالذات على الضفة الشرقية للخليج العربي، حيث تمر إمدادات وموانئ النفط التي تزود العالم بثلث انتاجه من هذه الطاقة الحيوية.
وبعيداً عن الشعارات التي أطلقتها السلطة منذ انتصارها مطالبة الإدارة الأميركية بتسليمها بنفوذها الإقليمي، واتهامها لها بالتجسس على أنشطتها وتهديد استقرارها، وتمويل عمليات الخروج عليها والتحريض على اسقاط النظام، طمحت ايران وما تزال إلى تقاسم النفوذ في الهيمنة على المنطقة مع الولايات المتحدة، أي أن تنضوي في اطار الاستراتيجية الأميركية مقابل حصة ذات وزن مؤثر. وهو ما لم تجد استجابة له خلال العقود الماضية، فعملت على الإفادة من ارتباك الإدارة الأميركية لتوسيع مواقع نفوذها اعتماداً على الأقليات الشيعية. وبذلت الكثير في تدريبها وتسليحها وتمويلها، ونجحت في اختراق بنية المجتمعات العربية من خلالها، وأسست نفوذاً لا يستهان به في دواخلها.
لكنها في أوقات محددة وتبعاً للأوضاع السياسية المتغيرة عملت على تقاسم النفوذ مع اميركا، وهو ما تجلى في كل من أفغانستان والعراق، وإلى حد ما القبول والرضى بنفوذها في اليمن، رغم فداحته وأكلافه على المملكة العربية السعودية والامارات العربية كحليفتين للولايات المتحدة منذ عقود وعقود.
وهو ما دفع بالمملكة مؤخراً إلى معاندة السياسة الاميركية في قضايا أسعار النفط وتأزم العلاقات مع روسيا ومسائل التطبيع مع اسرائيل وغيرها. المهم أن الولايات المتحدة أجازت لايران التمدد في الإقليم انطلاقا من اعتبار أن ما يعنيها فيه أمران لا ثالث لهما:
أولهما: أمن اسرائيل باعتبارها ركيزة لا مثيل لها على صعيد ضبط وقمع تطلعات المنطقة إلى الحداثة والتقدم والديمقراطية.
وثانيهما: توريد النفط وضمان تدفقه إلى المجمع الصناعي الغربي سواء في اميركا نفسها أو اوروبا الغربية، مع حصة لكل من اليابان والصين والشرق الآسيوي.
وكلاهما تحققا، رغم أن المسؤولين الايرانيين دأبوا على إلقاء الخطابات الحماسية عن مواجهة اميركا باعتبارها الشيطان الاكبر، وإزالة اسرائيل من الوجود في غضون نصف ساعة أو أقل أو أكثر. بالعكس تماما كان التدخل الإيراني في عمق المنطقة واختراق نسيجها التقليدي يقود إلى هتك وتمزيق المجتمعات العربية بفعل الصراعات التي أطلقها. وهو ما ساعدت أميركا عليه من خلال التركيبة السياسية الطائفية التي أرساها الحاكم العسكري الاميركي بريمر، وما زال ساري المفعول، ورعاية الصراعات الداخلية والإشراف على الاستثمار فيها .
ينطبق الامر نفسه على سوريا التي وجدت إيران في انتفاضتها هي الأخرى الفرصة السانحة لزيادة الوزن الذي أرسته منذ أيام الرئيس حافظ الأسد، وبالطبع كان الموقع السوري هو الحلقة الوسيطة للاطباق على العراق من جانبيه، وإرسال الإمدادات إلى حزب الله في لبنان، الذي بلغ نفوذه حد الاطاحة بالعلاقات العربية وسيادة الدولة، وإخضاع منظومة الحكم لقراراته وتحقيق حرية حركته، ولو على حساب الاجتماع والاقتصاد ومعيشة اللبنانيين ومئات ألوف اللبنانيين العاملين في السعودية ودول الخليج. وبذلك اتصلت حلقات الاستتباع ببعضها بشهادة الأحاديث الايرانية التي تكررت عن العواصم العربية التي تدور في فلك نفوذ طهران.
أما في اليمن فالحرب الضروس المندلعة رغم الهدنة المؤقتة التي جرت الاطاحة بها، ما تزال رهينة حلم الامساك بمغاليق البحر الاحمر، بعد التمترس على أبواب الخليج العربي، وإطلاق التهديدات الدائمة باقفاله أمام إمدادات النفط والغاز الخارجة من المرافيء السعودية والإماراتية والعراقية. إذن لم تمانع اميركا في بسط النفوذ الايراني على المنطقة وزيادة تدخلها في شؤونها الداخلية، طالما أنها منضبطة ضمن اطار من التحركات لا تتعداها.
وعليه صالت وجالت قوى المشروع الايراني تحت نظر ورعاية قائد فيلق القدس قاسم سليماني، الذي كان قتله على أيدي الأميركيين علامة فارقة على ما تسمح به وتمنع اليد الاميركية الطولى. ثم جاءت التطورات السياسية في كل من العراق ولبنان لتضع النفوذ الايراني في قفص الحصار بعد أن تفاقمت صفاقة منظومة الفساد والنهب المستشري التي تتبع لها أو ترضخ لاحكامها، وظهر عجزها عن حل أبسط الأزمات اليومية التي يعانيها المواطنون كتأمين مياه الشرب والطاقة الكهربائية والطرقات والمدارس.
وبناءً عليه يمكن فهم التحولات التي شهدها كلا البلدين في غضون التحركات التي ضجت به أصوات الشباب / الشابات في شوارع مدنهما في الاعوام السابقة. وهو ما قاد إلى خسارة الأكثرية النيابية التي كانت تتمتع بإدارته في كليهما، رغم الفارق بين مجريات الحدث العراقي واللبناني وقواه الفاعلة.
وهنا يجب ألا يغيب عن بالنا حضور الدور الاسرائيلي في لجم التمدد الإيراني. صحيح أن المسؤولين الاسرائيليين تابعوا بانشراح تمزق المنطقة والدولة العربية المركزية وجيوشها لأسباب سياسية ودينية وقبلية وإثنية، لكنهم كانوا يتلقون بحبور ما بعده عزلة القضية الفلسطينية عن الدينامية السياسية الرسمية والشعبية في المنطقة منذ الانتفاضات العربية، ويعملون على تعميق الانقسام الذي مارسته العديد من الأطراف العربية والاقليمية وفي مقدمتها ايران، بين فتح وحماس والضفة الغربية وقطاع غزة، وعمدوا إلى التدخل الميداني بهراوتهم الحربية الغليظة كلما جرت محاولة لتجاوز، أو القفز فوق الخطوط الحمراء المرسومة.
لكنهم في الوقت نفسه مارسوا سياسة مطاردة دون هوادة للنفوذ الايراني في سوريا، وحصلوا على إذن من الراعي الروسي للنظام للقيام بالغارات المطلوبة، بدءا من الجنوب السوري بوابة الجولان المحتل، مروراً بالعاصمة وضواحيها والوسط، وصولاً إلى أقاصي الشمال في حلب وشرق البلاد ومعبر البوكمال وغيرها. وشملت غاراتهم الجوية المطارات المدنية وقوافل ومخازن الاسلحة والثكنات وخطوط المواصلات، ومواقع قيل عنها أنها لإنتاج الصواريخ والطائرات المسيرة. ونتيجة ذلك بات هذا الوجود تحت رحمة سلاح الجو والصواريخ الاسرائيلية، مع تلويح السلطة الصهيونية الدائم بالحصول على الضوء الاخضر الامريكي للهجوم على إيران نفسها، بدل الاكتفاء بالاغتيالات والعمليات الأمنية و السيبرانية في الداخل.
من الثابت أن الايرانيين يراهنون في المحصلة على قبول أميركا بتبعية وتقاسم مناطق نفوذهم في المنطقة.
وهم يدركون أكثر من سواهم أن حرب أوكرانيا، رغم دعمهم لروسيا أثبتت وهن الجيش، وبالتالي السلطة الروسية، عن تحقيق ما كانت قررته عندما أشعلتها. وهو ما يخلف هشاشة في الموقف الإيراني والسوري على صعيد التوازنات في المنطقة.
كما أن الصين بدورها محكومة في علاقاتها مع كل اميركا وأوروبا بتقاطعات مصالح اقتصادية ضخمة لا فكاك منها، لجهة تغلغل الرساميل المتبادلة لكل منهما في الأخرى، وكميات وحجم الاستهلاك والصادرات والتصنيع المشترك للمنتجات، وبالأخص التكنولوجيا المتقدمة والرخيصة من الأجيال الجديدة. ما يعني أن القطيعة بينهما ستقود إلى تدمير هذا النمو الذي تحقق لاقتصاداتهم على مدى العقود المنصرمة. وهو أمر يدفع بكل طرف من الأطراف المشاركة فيه إلى إجراء حسابات دقيقة وقياس مدى تقبلها أو رفضها، ومقدار هذا الرفض وحدود الرد عليه.
ومثل هذا التوازن من شأنه أن يحرم ايران من إمكانية اللعب على التناقضات الدولية ومصالح الشركات. بعد أن تجرعت الكأس نفسه في أعقاب إلغاء الاتفاق النووي من جانب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فكان أن تبعت ذلك عملية مغادرة وانسحاب واسعة من قبل الشركات الأميركية والأوروبية برساميلها ومشاريعها مفضلة الأسواق الكبرى التي تعرفها عن أسواق محدودة الاستهلاك .
ختاماً، تصورت ايران أن بإمكانها أن تصبح قوة عظمى، وبالتالي أن تلعب مع الكبار من خلال أمرين هما، السلاح النووي والتمدد في المنطقة العربية، ووصلت بهما إلى حدود لا تتعداها ما دامت أسيرة حجمها في السياسة والاقتصاد الدولي، وما دامت امتداداتها تشهد تقلصاً في نفوذها بعد انتعاشها قبلاً بفعل جملة ملابسات متداخلة. لذا ليس غريباً أن ينفجر الداخل حال ظهور بداية أفول مشروعها التوسعي، والذي يحتاج انهياره كاملاً إلى سنوات وسنوات طويلة من الانتفاضات لإسدال الستار على فصول نهايته.