مرحلتان على طريق بناء الدولة القادرة… (1)

حصريّة السلاح

كتب ماهر أبو شقرا

على المجتمع اللبناني بأكمله أن يتفهّم هواجس الجنوبيين حتماً، فإسرائيل على حدودهم. وإنّ كفاح أهل جبل عامل وقرى العرقوب بوجه اعتداءات النظام الصهيوني المستمرّة على قراهم يرجع إلى الأيام الأولى لتأسيس إسرائيل، قبل أن يكون هناك مقاومة وقبل أن يوجد شيء اسمه حزب الله.

بالمقابل، على جمهور حزب الله أن يتفهّم أنّ باقي المجتمع اللبناني لا يُمكن أن يقبل بعد اليوم أن تتسلّح طائفة دون سواها. وإذا تسلّح الجميع فإنّ ذلك سوف يُهدّد السلم الأهلي حتماً. لذلك لا بدّ من حصر كلّ السلاح وقرار الحرب والسلم بيد المؤسسات العسكرية والأمنية الرسمية، مؤسسات الدولة التي تمثّل الإرادة العامة للمجتمع اللبناني. ولا بدّ من تعزيز إمكانيات الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية لكي تكون قادرة على صون أرضنا وحماية مجتمعنا، وردع كلّ تهديد وصدّ كلّ عدوان.

مقاومة أم ردع إستراتيجي؟

إذا كان المجتمع اللبناني قد قبل بتسلّح حزب الله تحت شعار المقاومة في فترة معيّنة، فذلك لأنّ مجتمعنا كان مقتنعاً بأنّه هناك أراضٍ لبنانية محتلّة لا بدّ من تحريرها. وعندما حصل التحرير في 25 أيار/مايو العام 2000 أصبحت مبرّرات الإبقاء على السلاح ضعيفة وغير مقنعة، إذ أنّ الطبيعي هو أن ينتهي دور المقاومة مع انتهاء الاحتلال. غير أنّ حزب الله أصرّ على التمسّك بسلاحه، ودمج بين مفهوم المقاومة وعنوان حزب الله فأصبحا وكأنّهما مرادفان لشيء واحد. كما استمرّ في مضاعفة قدراته القتالية، مستنداً إلى النزاع الحدودي حول مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ومرتكزاً على تعميق التحالف بين النظام السوري المسيطر على لبنان والنظام الإيراني الذي يشكّل حزب الله امتداداً عقائدياً وعسكرياً وسياسياً له.

وعلى التوالي، قام حزب الله بتوسيع مفهوم المقاومة، فجعله يشمل قدرات الردع الاستراتيجي، وأرسى بالتالي عقيدة عسكرية جديدة ومحدّثة، ومنفصلة بشكل كامل عن الدولة اللبنانية.

ومع توسيع مفهوم المقاومة الذي أرساه حزب الله، توسّعت قدراته وتعاظمت عدداً وعدة وتجهيزاً، بدعم مباشر ومستدام من النظام الإيراني. وترافق ذلك مع تعاظم دور المؤسسات الاجتماعية والمالية والاقتصادية والتربوية والثقافية والسياسية لحزب الله، وذلك كي تُلبّي الحاجات المتعاظمة لجسمه الجهادي. وكلّ ذلك بدوره أسهم في تعاظم الكتلة البشرية الداعمة لحزب الله، “بيئة المقاومة”، كما يُسميها قادة الحزب.

هواجس الطوائف.. والعقد الإجتماعي القلق

مع تزايد قوّة حزب الله تزايد بالمقابل القلق لدى القوى السياسية الأخرى الموجودة في لبنان، إذ تبيّن لهم أنّ الحزب يريد إخضاع الدولة والمجتمع اللبناني لمشروعه ودوره الإقليمي العابر للحدود. وبالفعل، أصبحت قضية المقاومة، بتعريفها الجديد الذي فرضه حزب الله، قضية قائمة بذاتها. وأصبحت الدولة اللبنانية، لا سيّما خلال العقد الأخير، وكأنّها مُسخّرة لخدمة تلك المقاومة، لوجستياً ودبلوماسياً، وهذا ما لا يمكن القبول به في لبنان، ولا يمكن للعقد الاجتماعي اللبناني القلق أن يحتمله.

هذا الواقع المتعاظم، أصبح يُهدّد وحدة مجتمعنا اللبناني بشكل جدّي. وعوضاً عن مواجهة الحزب بمشروع جدّي لبناء الدولة القادرة والعادلة ذات السيادة الكاملة، التي تنهي المرتكزات التي يستند إليها حزب الله لتبرير احتفاظه بقوته العسكرية، فإنّ زعماء وأحزاب الطوائف اللبنانية حاولوا الاستفادة من قوة حزب الله عبر خيارين مختلفين. فبعض الأحزاب قد لجأت إلى خيار الإذعان لقوّة الحزب فتحالفت معه. وبالمقابل، استفادت أحزاب طائفية أخرى من قوة حزب الله عبر تخويف جماهيرها منه، ذلك لكي تبقى جماهير تلك الأحزاب تحت جناح أحزابها بحجّة أنّها الوحيدة التي تحميها. أمّا الأقلّية الشعبية العلمانية المعارضة فبقيت وحدها متمسّكة بمشروع الدولة القادرة والعادلة ذات السيادة الكاملة كثلاثية لا تتجزأ؛ أي مشروع الدولة القادرة على الإمساك بزمام الأمور وحماية المجتمع والأرض، والتي تؤمّن العدالة الاجتماعية والمناطقية، والتي تفرض سيادتها الكاملة على أرضها وبحرها وجوّها وقرارها السياسي والأمني.

لقد شهد العقدان الأخيران تصاعداً متزايداً للخطاب المشكّك بسلاح حزب الله. ولقد عزّز ذاك التصاعد انخراط الحزب أكثر فأكثر في السياسة اللبنانية بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، والسلوكيات التسلّطية التي انتهجها حزب الله في الداخل اللبناني لا سيما في ضوء أحداث أيار/مايو 2008 وكلّ ما تلاها، وصولاً إلى تكريس المكاسب السياسية التي حصل عليها “الثّنائي الشيعي” في اتفاق الدوحة كأمر واقع. كلُّ ذلك أدى إلى تزايد القلق داخل لبنان من الاختلال الكبير في موازين القوى السياسية نتيجة وجود طرف مسلّح قادر على فرض شروطه السياسية عندما تدعو الحاجة، الأمر الذي بات يُشكّل تهديداً جدياً للديموقراطية ولتكافؤ الفرص في العمل السياسي.

ولو عدنا إلى خطاب الحزب نفسه نجد أن نائبه عن قضاء مرجعيون د.علي فياض قال ذات يوم إنّ إنكار الهواجس الكبرى لدى الطوائف لن يجدي نفعاً، سواء كانت تلك الهواجس حقيقية وفعلية أم كانت وليدة المبالغات والأوهام، لأنّه في كلتا الحالتين يبقى أثر الهواجس واقعيّاً من حيث المواقف والسلوك.

وبالفعل، هناك شرائح واسعة في المجتمع اللبناني تضاعفت هواجسها من تعاظم قوّة حزب الله، وباتت تتوجّس من سطوته ومن تأثير سلاحه في المعادلات السياسية الداخلية. تلك الهواجس لا يكفي إنكارها لأنّها هواجس موجودة ومتجذّرة.

إنّ تضاعف تلك الهواجس هو نتيجة عوامل متعدّدة ومختلفة، أهمّها قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال رفيق الحريري والذي أشار إلى تورّط قيادات أمنية من حزب الله في الاغتيال. يُضاف إلى ذلك عقدان من الغموض حول الاغتيالات السياسية التي حصلت في لبنان منذ عام 2004، هذا فضلاً عن الحديث عن تدخلّ مباشر وغير مباشر من قبل حزب الله لعرقلة التحقيق في تفجير مرفأ بيروت. ولقد تضاعفت الهواجس وتعمّقت بعد مشاركة حزب الله في معارك خارج الحدود اللبنانية، لا سيما في سوريا، وتكريس دوره كلاعب إقليمي يشكّل ذراعاً فعّالة للنظام الإيراني، الأمر الذي فاقم الإشكالية السيادية المرتبطة بسلاح الحزب ودوره في لبنان.

ولأنّ الدولة اللبنانية كانت تحت سيطرة حزب الله بشكل أو بآخر، فإنّ لبنان دفع ثمناً كبيراً للنزاع الإقليمي كونه أصبح منحازاً للمحور الذي يقوده النظام الإيراني بوجه الحلفاء التقليديين للبنان. كلّ ذلك وصولاً إلى قيام حزب الله بالتدخّل المباشر لمواجهة وقمع احتجاجات تشرين 2019، التي قامت بوجه منظومة الفساد التي قادت البلاد إلى الانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي. فقد اعتبر حزب الله أنّ تلك الاحتجاجات الشعبية موجّهة ضدّه بشكل أو بآخر، فكرّس نفسه كمركز ثقل ونقطة ارتكاز المنظومة المالية والاقتصادية والسياسية الحاكمة.

(يتبع…)

اخترنا لك