بقلم محمد ياسر الصبان – خاص بوابة بيروت
يحتفل الشعب اللبناني سنوياً في 22 تشرين الثاني بذكرى الاستقلال بفرحة كبيرة. إلا أن البعض يتمنى عودة الحكم العثماني والبعض يرجو عودة الانتداب الفرنسي، وكل من الفريقين له أسبابه الموجبة لأنه يشعر بالبؤس الذي إجتاح شعب لبنان بعد الاستقلال.
فشركة كهرباء لبنان قبل الاستقلال كانت فرنسية وكان من المستحيل ان تنقطع الكهرباء عن اللبنانيين، ومجاري الصرف الصحي كانت عثمانية وكان من المستحيل ان تفيض على الناس كلما انهمر المطر.
فهل حصل اللبنانيون على الاستقلال فعلاً، أم أن شكل الاستعمار اختلف وجاء بلبوس جديد أسوأ من الانتداب ؟
إن ما لا يعرفه اللبنانيون ولا شعوب الدول النامية هو أن الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية طوّر أدواته ولم يعد بحاجة الى وجود المندوب السامي ولا الى الجيوش المكلفة، وكل ما في الامر هو استخدام النظام النقدي بالتزامن مع تطوير العلاقة ببعض أشخاص يجعلهم الاستعمار زعماء مرموقين ينادون بالعفة في الجهر ويخونون الناس في الخفاء ويصبحون زعماء الطوائف التي تنتهك كرامة كل من لا ينتمي الى عصبيتها وجهلها من المواطنين.
لقد كانت التجارة الدولية والاستعمار الاقتصادي للعالم أحد أهم أسباب الحرب الكونية الثانية، ولذلك فإن أول ما فعلته الدول المنتصرة قبيل انتهاء الحرب هو مؤتمر “بريتون وودز”.
لتوليد بنك عالمي وصندوق نقد عالمي وقرار عالمي بتثبيت أسعار صرف عملات كل دول العالم بواسطة الاحتياطي الإلزامي من الذهب الذي تسيطر على تحديد سعره وكميته اليد العالمية المستعمرة، أو بالدولار الأميركي المدعوم بذهب “قلعة نوكس” والذي تسيطر على إصداره نفس اليد الاستعمارية التي لم تعد بحاجة الى نشر جيوشها في الدول المستعمرة. إلا انه قبل ذلك بأعوام وخلال الانتداب الفرنسي قام بنك باريس بإصدار أوراق نقد بإسم بنك وهمي يدعى “بنك سوريا ولبنان” وهو فرع من بنك باريس الذي أصدر نقوداً ورقية هي سندات أمانة ودين على بنك باريس واستولى بهذه الأوراق النقدية التي لا قيمة حقيقية لها ولم يسدد تعهداته المكتوبة عليها، ولكنه بهذه النقود سرق معظم الذهب الموجود في لبنان وفي سوريا.
إلا أن الانتصار الحقيقي في الحرب كان للمستعمر العالمي الحقيقي المتخفي خلف القيادات السياسية العالمية وخاصة الأمريكية. لأنه فرض على كل دول العالم أن تدّخر الدولار مقابل إصداراتها النقدية، وكان يسرق جزءاً من ثروة كل مجتمعات الأرض كلما أصدر كميات جديدة من الدولار. وأنا هنا لا اقصد فقط البنك الفيديرالي الأميركي الذي يصدر الدولار الذي نراه ونلمسه فيزيائياً، بل اقصد من يتمكن من توليد كميات هائلة من الدولارات القيدية عن طريق مضاعف الائتمان النقدي والتي تشكل أكثر من 95% من الكتلة النقدية العالمية بالدولار.
وقد حاولت دول العالم التشارك مع الولايات المتحدة باستخدام النظام النقدي نفسه بعد مؤتمر “نيوساوثمبتون” سنة 1974 وبدأت مرحلة جديدة من الاستعمار تارة بالدولار وتارة بسلة العملات وتارة بحقوق السحب الخاصة وبعدها باليورو او الين او الروبل والليوان. لذلك تفاقم الفقر والبؤس والفساد والاقتتال بين معظم شعوب الأرض، لأن مصلحة المستعمر ان لا تستخدم الشعوب عقلها، وأن تستمر العاطفة والشهوة والخوف هي المسيطرة ليستمر الاختلاف والبغض والكراهية والتفرقة بين الناس ليستمر المستعمر في غيّه واستبداده وسرقته لخيراتهم.
وللأسف فإن لبنان كان مرتعاً مناسباً لأعوان الاستعمار الاقتصادي، فهو يتكون من مجموعة كبيرة من الطوائف التي تسعى لحماية مكاسبها من مغانم السلطة، ولكل طائفة زعامة تؤجج هذا الكره والانقسام وتحقق مكاسب وثروات هائلة على حساب كرامة المواطن اللبناني الذي تم تغييب عقله بحجة مكاسب وحقوق الطائفة.
فهل تعتقدون أننا حصلنا على الاستقلال حقيقة ؟
الاستقلال الحقيقي يبدأ بولادة قادة سياسيين خدم مخلصين للمجتمع وليس لهم طائفة إلا مصلحة الإنسان وحقوقه في الوطن، ولهذا الأمر ميزان حرارة وحيد لا بد من فهمه والعمل به، وهو يتعلق بإصدار النقد المحصن ضد التضخم والسرقة، النقد الذي تنمو قيمته دون الحاجة الى أي غطاء من الذهب او أي عملة عالمية أخرى، نقد يكون إصداره هو البديل عن الجبايات الضريبية التي تولد الزعماء الفاسدين الذين زرعهم الاستعمار ليفسد بين الناس.
وأختم بأن تمويل الإنفاق العام الحكومي بحسب معدلات النمو الاقتصادي التي تنعكس على القيمة الشرائية للعملة الوطنية هو مشروع الاستقلال الحقيقي ومشروع العدالة والمحبة والنمو والكرامة الوطنية.