مجلس الخدمة المدنية : بين وظيفته الأساسية والفوضى الإدارية…

هل حان وقت إعادة الهيكلة ؟

بقلم كوثر شيا

في ظل الأزمات المتراكمة التي تعصف بلبنان، تبقى المؤسسات العامة رهينة نهج سياسي عقيم يكرّس المحاصصة الطائفية على حساب الكفاءة والإنتاجية. ومن بين المؤسسات الأكثر تضررًا، مجلس الخدمة المدنية، الذي يُفترض أن يكون الجهة المخولة لضبط وتنظيم التوظيف في الإدارات العامة، لكنه يعاني من تهميش ممنهج أدى إلى تفشي الفوضى الإدارية والتوظيف العشوائي، ما فاقم الهدر وأضعف إنتاجية الدولة.

اليوم، ومع وجود أكثر من 200,000 وظيفة شاغرة في الدولة اللبنانية، يُطرح السؤال: لماذا لا يتم تفعيل دور المجلس لسدّ هذه الشواغر عبر آليات قانونية شفافة؟ ولماذا تستمر السلطة السياسية في تجاهل الحاجة الملحّة لإعادة هيكلة القطاع العام، فيما تستمر في توظيف المحسوبين عليها خارج أي معايير واضحة؟

في الدولة اللبنانية، هناك وظائف يتم التعيين فيها مباشرةً بقرار من السلطة السياسية، سواء من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو الوزراء، دون الخضوع لآليات التوظيف عبر مجلس الخدمة المدنية. هذه التعيينات تكون غالبًا في المناصب العليا والقيادية، ومنها:

1. الفئة الأولى (التعيينات الكبرى)
• المدراء العامون في الوزارات
• رؤساء المجالس والهيئات المستقلة (مثل هيئة إدارة قطاع البترول، هيئة الأسواق المالية، مجلس الإنماء والإعمار…)
• المحافظون (محافظ بيروت، جبل لبنان، الشمال، البقاع…)
• قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية (قائد الجيش، مدير عام قوى الأمن الداخلي، مدير عام الأمن العام، مدير عام أمن الدولة)
• رئيس وأعضاء مجلس شورى الدولة
• رئيس وأعضاء ديوان المحاسبة

2. التعيينات القضائية
• مجلس القضاء الأعلى (رئيس وأعضاء)
• المدعي العام التمييزي
• رئيس هيئة التفتيش القضائي

3. رؤساء وأعضاء المجالس الرقابية
• رئيس وأعضاء هيئة التفتيش المركزي
• رئيس وأعضاء الهيئة العليا للتأديب
• رئيس وأعضاء المجلس الدستوري

4. رؤساء وأعضاء المجالس الاقتصادية والمالية
• حاكم مصرف لبنان ونوابه
• رئيس وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف
• رئيس وأعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي

5. السفراء والقناصل في وزارة الخارجية
• يتم تعيين السفراء بمرسوم من رئيس الجمهورية بناءً على اقتراح وزير الخارجية وموافقة مجلس الوزراء.

6. بعض المناصب في المؤسسات العامة

بعض المديرين العامين ورؤساء المؤسسات العامة والمرافق الكبرى مثل:
• مؤسسة كهرباء لبنان
• الضمان الاجتماعي
• الطيران المدني
• مرفأ بيروت

هذه المناصب لا تخضع لمباريات مجلس الخدمة المدنية، وإنما يتم تعيينها بقرار سياسي، مما يجعلها خاضعة للمحاصصة الطائفية، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تعيين أشخاص وفق الولاء السياسي لا الكفاءة.

أما الوظائف الإدارية في الفئات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، فتُشغل عبر مجلس الخدمة المدنية بمباريات رسمية، لكن حتى هذه الآلية تم تعطيلها في بعض الحالات، حيث تلجأ السلطة إلى التوظيف العشوائي والتعاقد دون المرور بالمجلس.

مجلس الخدمة المدنية: وظيفته الأساسية ودوره المعطّل

من الناحية القانونية، يُعتبر مجلس الخدمة المدنية الهيئة الرسمية المسؤولة عن ضمان مبدأ تكافؤ الفرص في التوظيف العام، ومنع التدخلات السياسية والطائفية في الإدارات العامة. وتتضمن مهامه الأساسية:
1. إجراء المباريات والاختبارات لتوظيف الأشخاص الأكفّاء في القطاع العام.
2. إعداد الدراسات والتوصيات حول تطوير الإدارة العامة وتحسين أدائها.
3. الإشراف على التوظيف والترقيات لضمان الالتزام بالمعايير المهنية.
4. تنظيم التدريب الإداري لرفع مستوى كفاءة الموظفين.
5. مراقبة الأداء الوظيفي عبر تقييمات دورية تحدد كفاءة الموظفين وفعاليتهم.

لكن هذه المهام أصبحت نظرية أكثر منها عملية، حيث تم تعطيل دور المجلس بشكل تدريجي لصالح تعيينات سياسية ومحسوبيات حزبية، ما أدى إلى تضخم القطاع العام بموظفين غير منتجين، فيما تبقى الوظائف الأساسية شاغرة.

غياب الرقابة وأزمة التوظيف العشوائي

أحد أبرز المشاكل التي تواجه القطاع العام اليوم هو غياب نظام رقابي صارم على الأداء. في العديد من الدول، يتم تقييم الموظف دوريًا، ويُفرض على المعينين الجدد فترة اختبار (Probation Period) تمتد لثلاثة أشهر، يتم خلالها تقييم الأداء قبل التثبيت النهائي. أما في لبنان، فالتعيينات غالبًا ما تتم بقرارات سياسية، ما يجعل المحاسبة شبه معدومة، ويُبقي آلاف الموظفين في مواقعهم دون إنتاجية حقيقية.

إضافةً إلى ذلك، فإن عدم وجود وصف وظيفي دقيق للمناصب المختلفة داخل الإدارات العامة، وعدم الالتزام بساعات العمل والانضباط الإداري، أدى إلى فوضى إدارية تكلّف الدولة خسائر هائلة سنويًا، في وقت هي بأمسّ الحاجة إلى ضبط الهدر وإصلاح المالية العامة.

كيف يمكن معرفة الوظائف الشاغرة في الدولة؟

في ظل غياب منصة رسمية موحدة للإعلان عن الوظائف الحكومية، يواجه المواطن اللبناني صعوبة في معرفة الوظائف الشاغرة. ومع ذلك، هناك بعض المصادر التي يمكن مراجعتها:
1. الموقع الرسمي لمجلس الخدمة المدنية: يُفترض أن المجلس يُعلن عن الوظائف والمباريات عبر موقعه الإلكتروني www.csb.gov.lb، لكن قلة الالتزام الحكومي تحدّ من فاعلية هذه الآلية.
2. الجريدة الرسمية اللبنانية: تُنشر بعض الوظائف في الجريدة الرسمية، لكنها ليست وسيلة سهلة الوصول للباحثين عن عمل.
3. الوزارات والإدارات العامة: بعض الوزارات تنشر الوظائف الشاغرة على مواقعها أو عبر وسائل الإعلام، لكن لا يوجد نظام موحّد يجمع كل الفرص.
4. إطلاق منصة حكومية إلكترونية موحدة: من الضروري إنشاء منصة رقمية شفافة تعرض جميع الوظائف العامة، بحيث يستطيع المواطنون التقديم إلكترونيًا، بعيدًا عن الوساطات السياسية والطائفية.

إعادة هيكلة القطاع العام: خطوة لا تحتمل التأجيل

إصلاح القطاع العام يبدأ بإجراءات واضحة، على رأسها:
1. فرض إلزامية التعيينات عبر مجلس الخدمة المدنية، ومنع أي توظيف خارج إطار المباريات الرسمية.
2. إعادة هيكلة الإدارات العامة، عبر وضع أوصاف وظيفية دقيقة لكل منصب، وإلزام الموظفين بساعات عمل محددة مع فرض نظام حضور ومتابعة صارم.
3. تفعيل دور إدارات الموارد البشرية في كل وزارة، بحيث يتم تحديد الاحتياجات الحقيقية للموظفين بدلًا من ملء الإدارات بعشوائية.
4. إجراء تقييم سنوي لكل موظف، بحيث يتم فصل غير المنتجين وإعطاء الحوافز للكفاءات.
5. إطلاق منصة إلكترونية حكومية موحدة تعرض جميع الوظائف الشاغرة في القطاع العام، بحيث يتمكن أي مواطن من التقدم عبرها، بعيدًا عن الوساطات والمحسوبيات.
6. إلزام رئيس الحكومة والوزراء بالتقيّد بالقانون، ومنع أي تعيينات خارج مجلس الخدمة المدنية، مع فرض رقابة صارمة على جميع عمليات التوظيف.

الحكومة أمام اختبار حقيقي: هل تستطيع كسر نهج المحاصصة؟

اليوم، الحكومة أمام فرصة تاريخية لإصلاح القطاع العام وإعادة المؤسسات إلى مسارها الصحيح، بعيدًا عن الصفقات السياسية والمحاصصة الطائفية التي دمرت هيكل الدولة. لكن التحدي الحقيقي يكمن في قدرتها على الالتزام بالقانون ومنع أي توظيف خارج الأطر الشرعية.

فهل نشهد في المرحلة المقبلة تغييرات جدية في هذا الملف؟ أم أن السلطة ستواصل تعطيل المؤسسات لصالح حساباتها الخاصة، تاركةً الإدارات العامة تغرق في الفوضى والهدر؟

اخترنا لك