“المفكرة القانونية” تقدّم شكوى ضدّ القاضيين وسام المرتضى وبسام المولوي
(1) - العودة المستحيلة من تحيّز الوزارة إلى حياديّة القضاء
خلال الأيام الأخيرة، قدّمت “المفكّرة القانونيّة” إلى هيئة التفتيش القضائيّ شكويين في حق الوزيرين السابقين القاضيين محمد وسام المرتضى وبسام المولوي، وذلك ردًّا على إعلان نيّتهما العودة إلى القضاء تبعًا لانتهاء مهامّهما الوزارية. وإذ ذكّرت “المفكرة” في مستهلّ شكوييْها أنّ القانون لا يمنع عودة القضاة الذين شغلُوا مناصب وزاريّة إلى العمل القضائيّ، فإنّها رأتْ أنّ هذه العودة يجب أن تترافق مع مراجعةٍ دقيقة للتثبّت من انعكاسات الأداء الوزاريّ على شخصية القاضي والثقة العامة في قدرته على القيام بوظيفته بحياديّة واستقلاليّة. وعليه، ضمّنت “المفكّرة” شكوييْها سلسلةً من القرارات والأفعال والمواقف العلنيّة المتّخذة من هذيْن القاضيين في إطار أدائِهما الوزاري، والتي يتولّد عنها لدى أي مراقب موضوعي قناعة مشروعة وراسخة بعدم قدرتِهما على القيام بالوظيفة القضائية بحيادية واستقلالية.
وإذ دعت “المفكرة” هيئة التفتيش القضائي إلى التحقيق مع هذين القاضيين، أملت أن تعمل الهيئة من خلال ذلك على إرساء القواعد التي يجدر بأي قاضٍ أن يلتزم بها في حال اضْطلاعه بأي عمل غير قضائي، سواء كان وزاريًا أو استشاريًا في إدارة عامة، في حال رغب حقيقةً في ممارسة العمل القضائيّ مجدّدًا.
سنعرض هنا أهمّ ما تضمّنته الشّكويان، علمًا أنّهما تستندان إلى وقائع علنيّة اطّلع عليها الرأي العام سابقًا ولا يمسّ تاليًا الكشف عنها إطلاقًا بسرّية التحقيق.
علامَ استندت الشكوى ضدّ محمد مرتضى؟
هنا استعادت “المفكرة” عددًا من المحطات الأكثر دلالة على افتقاده قدرتِه على القيام بالوظيفة القضائية بحيادية واستقلالية. وأهمّها الآتية:
اتّخاذ مواقف مؤيّدة للقتل والأعمال العنفيّة
هنا ذكّرت “المفكرة” بالمواقف الإيديولوجية المتطرّفة التي عبّر عنها مرتضى، والتي بلغت أقصاها مع إعلان تأييده القتل خارج القضاء (محاولة قتل الكاتب سلمان رشدي في الولايات المتحدّة الأميركية تنفيذًا لفتوى بهدر دمه صادرة عن آية الله الخميني عام 1989). وقد استعادت تحديدًا تغريدة مرتضى التي أرفق بها صورة هي عبارة عن رسم لشخصيّات دينيّة وعسكريّة متوفّاة بينها الخميني وقاسم سليماني، يظهرون فيها معًا في الجنّة مع تبادلهم التهاني والابتسامات، في إيحاء ضمني بالرضى عن محاولة القتل ومسعى منه لشرعنتِها دينيًا.
كما ذكّرت “المفكّرة” هنًا أيضا بتأييد مرتضى أعمال العنف المُرتكبة من قبل جنود الربّ (وهم مجموعة خارجة عن القانون) ضدّ ملهى ليليّ في بيروت في منطقة مار مخايل، على خلفية أنّ المعتدى عليهم مصابون “بالشذوذ”، من دون أيّ إشارة إلى وجوب محاسبة المعتدين أو ملاحقتهم. وتمامًا كما فعل تبعًا لمحاولة اغتيال سلمان رشدي في استخدام المقدسات والرموز الدينية دعمًا لآرائه الشخصية، نشر مرتضى مع تعليقه صورةٍ للقديس ميخائيل وهو يقهر الشيطان بسيفه، في مشهدٍ لا يمكن تفسيرُه إلّا على أنّه مباركة للجريمة، إلى درجة اعتبارها مهمة مقدّسة. فاختيار هذه الصورة يوحي بتقسيم طرفي الحادثة إلى معسكرين: أحدهما يمثّل القداسة والحقّ (عصابة جنود الربّ)، والآخر يجسّد الشر المطلق، في رؤية خطيرة تُشرعن العنف وتبرّر القتل.
التدخّل العلنيّ في القضاء وانتهاك مبدأ فصل السلطات
ومن المواقف التي لا تقلّ خطورة عمّا تقدم، هو تدخّل مرتضى العلنيّ في القضاء في انتهاك صارخ لمبدأ فصل السلطات.
ومن أهمّ التصريحات التي أدلى بها في هذا الخصوص:
- الدعوة إلى “إخراج الطاغوت من دار العدالة” (وهو يقصد طارق بيطار) وذلك في إطار تناول فيه التحقيق في قضية المرفأ في 3/12/2021.
- وصف المحقق العدلي بـ “ممتطي العدالة” و”سبع البرومبة”، كما شكّك في استقلاليّته من خلال الإيحاء بأنّه لديه “مُعلّم” مع اتهامه بالمتاجرة بآلام الضحايا، كما مطالبة رئيس الجمهورية بالتدخّل لوضع حدّ لعمله، وذلك في كلمة ألقاها خلال مؤتمر مناهضة التطبيع في 9/12/2021. والأخطر أنّه استخدم المنصّات التابعة لوزارة الثقافة لنشر هذه المواقف.
هذا فضلًا عن كمّ من التصريحات التي نُسب إليه الإدلاء بها داخل مجلس الوزراء في 12/10/2021 وانتشرت بشكل واسع في الوسط القضائي والفضاء العامّ. من أخطر هذه التصريحات التي نسبت إليه: “نازل آخدو لعلي حسن خليل عالمنارة وخلّي ابن مرا يوقفو” (وذلك تعليقًا منه على صدور مذكرة توقيف غيابية بحق هذا الأخير) ومخاطبته وزير الداخلية بسام المولوي بالقول “وإنت مذكرات التوقيف ما بتنفذهم” أو أيضًا اتهام بيطار بالعمالة. وإذ نفى المشكو منه هذه التصريحات، بالمقابل لم ينفها أو يؤكد على صحة نفيه لها أي شخص ثالث.
كما يُشار إلى أنّه في أعقاب حادثة الطيونة في 14 تشرين الأوّل 2021 والتي أدّت إلى مقتل 7 أشخاص وكادت تشعل الفتنة الداخلية، فإنّه اعتبر في تصريح لموقع “لبنان الكبير” أنّ:
“الموقف لا يزال على حاله. فلا شيء يسمو بأهميته على مسألة معالجة الخلل في مسار التحقيق العدلي في قضية انفجار المرفأ. وهذا موقف وطني تفرضه المسؤولية الوطنية، وليس وليد عناد أو مكابرة، ولا يمكن لأحد، مهما علا شأنه، أن يفرض علينا موقفاً يتعارض مع قناعتنا ومسؤوليتنا الوطنية”….
“فيما خصّ التحقيق العدلي بانفجار المرفأ، يقتضي تصويبه ومعالجة الخلل فيه، وتنقيته من الشوائب ولا ربط بينه وبين أحداث الطيونة، إلا أنّ أحداث الطيونة جاءت نتيجة لعدم معالجة الملف الأول”.
ويستشفّ من ذلك أنه حمّل بيطار مسؤولية حادثة الطيونة والدم الذي سال فيها، مستخدمًا هذه الحادثة للضغط مجددًا لإصلاح ما أسماه الخلل القضائي.
وهذه التصريحات تشكّل ازدراء بالقضاء واستقلاليته وازدراء بشخص زميله طارق بيطار وانخراطًا منه في الحملة التي شنّتها قوى سياسية منها القوى التي سمّت المشكو منه لتمثيلها ضمن الحكومة، بما يتنافى مع قسمه القضائي ومبدأ فصل السلطات وأيضًا المادة 419 من قانون العقوبات.
ممارسة الاصطفاف والتحيّز السياسي المطلق
أمرٌ آخر توقّفت عنده الشكوى التي رفعتها المفكرة وهي إعلان القاضي مرتضي تحيزّه السياسيّ الواضح بوجه الآخرين. ولم يكن هذا الانحياز مجرّد موقف سياسي عادي ضمن مهام الوزير السياسية، إنّما اتخذ طابعًا عدائيًا تجاه الأفرقاء الآخرين، واصطفافًا مطلقًا مع فريقه السياسي، متجاوزًا دوره الوزاري ليصبح أحيانًا أشبه بناطق رسميّ لهذا الفريق، مروّجًا لأفكاره ومسوّقًا لخطابه. كما أنّ هذا الانحياز لم يكن مظهرًا خطابيًا فحسب، بل انعكس في قراراته الوزارية.
ولعل أوضح مواقفه في هذا الخصوص، هو تصريحه بالفم الملآن أنه “معتمدٌ أصلا من الثنائي الوطني” (حركة أمل وحزب الله) وذلك تعليقًا على المواقف التي تُسجّل عليه مبادرته إلى الردود السياسية كأنه يقدّم باستمرار أوراق اعتماده إلى أحد طرفي الثنائي أو إلى كليهما معا. وهو بذلك أكّد أنه يمثّل هذا الفريق بصورةٍ دائمة فضلًا عن انسجامه الكلّي مع طروحاته وخياراته ومن دون أن يعبّر في أيّ لحظة عن أي موقف نقدي تجاهه. لا بل أكثر من ذلك، ارتضى مرتضى أن يؤدي دور المدافع عن رئيس مجلس النواب نبيه برّي في حال تعرّضه للانتقاد على صفحات التواصل الاجتماعي، وصولًا إلى نعت مُنتقديه ب “الصغار” الذين يتطاولون على الكبير الذي يمثله هذا الأخير. ولم يجد حرجًا في استخدام عبارات التفضيل والإطناب بالشخص على إطلاقه كأن يصفه ب “أستاذ الوطن” وصاحب “الحنكة التي لا يُرقى إليها” و”رحابة الصدر التي لا تضاهى”.
ومن بين المواقف العديدة التي عكست انحيازه السياسي وتطرّفه ومغالاته في الشعبوية، كان قراره الصادر في 2 تشرين الثاني 2023 بنزع إشارة الدرع الأزرق عن قلعة بعلبك، التي وضعت عليها عملًا باتفاقية دولية لحماية الممتلكات الثقافية خلال النزاعات المسلحة. وأخطر من القرار نفسه، هو تبرير الوزير له، حيث عبّر صراحة عن قناعته بعدم جدوى الالتزام بالقانون الدولي ردًّا على الانتهاكات الإسرائيلية، مُستخفًّا بالمؤسسات القانونية، كلّ ذلك في إطار الإطناب في مدح قوة فريقه السياسي الوحيد الذي يحمي من الويلات. وقد انتهى بذلك إلى تجريد المواقع الأثرية في لبنان من أحد تدابير الحماية (الشارة الزرقاء) ملقيًا بالملامة على الذي اجتهد ووضعها عليها من قبل.
وقد شكّل هذا القرار مثالًا آخر في منتهى البلاغة عن شعبويّته والتي وصلت إلى حدّ نزع هذه الشارات الزرقاء لا لسبب إلا لإعلان موقف سياسي واثق بقدرة المقاومة على ردع العدو الإسرائيلي بصورة كاملة. بعدئذ ومع اشتداد العدوان وتهديد صور وبعلبك وتدمير أجزاء من قلعة شمع، ستلجأ الحكومة ومن ضمنها وزير الثقافة إلى اليونيسكو للاستفادة من الحماية الخاصة لعشرات المواقع في لبنان بما يتناقض تمامًا مع مواقفه الشعبوية تلك والتي من الواضح أنه لم يكن لها مبرر إلا ميله إلى التزلف لفريقه السياسيّ والشعبوية، حتى ولو أدّى ذلك إلى مضاعفة المخاطر التي تحدق بالمواقع الأثرية بفعل العدوان الإسرائيلي.
الإعلان عن مواقف إيديولوجيّة معادية لحريّات المعتقد والتعبير وتأسيس جمعيات المصانة في المادتين 9 و13 من الدستور وفي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية خلال ولايته الوزارية، وفي موازاة تحيّزه لمواقف اجتماعية وسياسية، عبّر المشكو منه عن ازدرائه لعدد من الحريات المُصانة دستوريًّا، بعد إخضاعها لمقتضيات إيديولوجيّة متعصبة ومتزمّتة. ولعل الموقف الأكثر تعبيرًا عن هذا الموقف هو مسودة مشروع القانون الذي أعلن عنه لمعاقبة الترويج للمثلية أو التحول الجنسي، من خارج أي صلاحية لوزارة الثقافة بأي شكل. وهي مواقف تجد أكثر من صدى في تغريداته الكثيرة والتي أسهبت المفكرة في تفصيلها في الشكوى.
ومن أخطر ما صرّح به القاضي مرتضى في هذا الخصوص:
- مواجهة الأفكار التي تخالف نظام الخالق والمبادئ التي يجمع عليها اللبنانيون”، وذلك خلافا للمادة 9 من الدستور التي تكرس حرية المعتقد.
- مسودة مشروع القانون المقدم منه لمعاقبة الترويج للشذوذ (خارج صلاحيته)، حيث يتبدّى أنّ المُستهدف في هذه المسودة ليس التّشويق لممارسة علاقات جنسية مثلية أو إجراء التحوّل كبث أفلام جنسية مثلا، إنّما أيضا وربما قبل كل شيء أي قول أو ندْوة أو مؤتمر أو عمل فنيّ أو مقال حقوقيّ أو علميّ يتناول المثلية على أنها أمر طبيعيّ. بمعنى أن المستهدف هو بالدرجة الأولى النقاش العامّ المتّصل بالمثليين والعابرين والذي يعبّر القاضي مرتضى عن رغبته في طمسه والسيطرة عليه، تمامًا كما كان يحصل في الأزمنة التي كان التداول في شؤون المثلية يخضع لتابوهات اجتماعية قمعية. وما يؤكّد ذلك هو استهلال أسبابه الموجبة بشيطنة المنظمات غير الحكوميّة وتصويرها على أنّها أحصنة طروادة التي يتغوّل التطبيع مع المثلية في لبنان من خلالها. وليس أدلّ على ذلك من تضمين مقترحِه بنودًا عدّة على حلّ أيّ شخص معنوي من القانون الخاص (جمعية غير حكومية) في حال ارتكابِها أي مخالفة للقانون المقترح. وهنا، اقترن استهتار المشكو منه بحرية التعبير باستهتار بحرية تأسيس الجمعيات المحمية هي الأخرى دستوريًا بناء على مفاهيم مطاطة يندرج غالبها ضمن النظام الديني الشمولي الذي يكاد القاضي المرتضى يعلن أنه على غرار جنود الرب، أحد الجنود لفرضه فرضًا.
- قراره بمنع عرض فيلم “باربي” (خارج صلاحيته) على خلفية أنه “يسوّق فكرة بشعة مؤداها رفض وصاية الأب وتوهين دور الأم والتشكيك بدور الزواج وبناء الأسرة وعائقًا أمام التطور الذاتي للفرد”. وأكثر ما يجدر التوقّف عنده هو دفاعه عن وصاية الأب على نحو يعكس أفكارًا ذكوريّة راسخة في موازاة مواجهة أي أفكار منافية لذلك. ولعلّ خير دليل على ما ولّده هذا القرار لدى الرأي العام هو البيان الصادر عن عشرات من المثقفين والفنانين اللبنانيين (نذكر منهم الكاتب أحمد بيضون والروائيّ الياس خوري والشاعران بول شاوول وعباس بيضون وعشرات غيرهم من صحافيين وفنانين تشكيليين وشعراء ومخرجين وممثلين وكتّاب) وصفوا مرتضى بـ “الرقيب الأعلى الذي يدفع الحياة الثقافية إلى الانحطاط محرّضًا على ظاهرات لا يفهم منها سوى أنها تناقض وعيه المتعصّب وإيديولوجيته الرجعية.” كما أكدوا في بيانهم أن: “هذه “الثقافة” المناهضة للثقافة ينبغي أن تسقط وأن يسقط معها من يرمزون إليها ومن يقفون وراءها. هذا إذا شئنا أن نكون أحراراً في بلد حرّ“.
كما أعابتِ الشكوى على القاضي مرتضى “اتّخاذ مواقف عنيفة وتمييزيّة بحقّ فئة اجتماعيّة هشّة” فضلا عن اعتماد أسلوب يقارب الشعبوية والإسفاف وينتقص إلى الحدّ الأدنى من الرصانة. ومن أبرز المواقف التي سجلتها المفكرة في هذا الخصوص سجاله مع النائب مارك ضوّ على خلفية أنه وقّع مع نواب آخرين على اقتراح قانون بإلغاء العقوبات عن العلاقات المثلية. فهنا أيضًا لم يشأ مرتضى انتقاد هذه المبادرة بصورة علمية وموضوعية بل عمد إلى تحقير النائب ضوّ واصفًا إياه ب “النائب غير التائب” مع اتهامه بنفث سموم الحقد والشذوذ من دون أي نقاش وصولا إلى توصيفه بأنه “مشرّع الغفلة”. كذلك استهلّ مرتضى في منشور آخر، هجومه بقوله: “وقانا الله شر هذا الزمان الذي أصبح لنا فيه “نوائب شذوذ” كمثل جنابك أفرزها قانون انتخاب شاذ”.
خلاصة، مما تقدّم، رأت “المفكرة” في شكواها أن التدقيق في سلوكيات القاضي مرتضى خلال ولايته الوزارية إنما يعكس صورة لدى أي مراقب موضوعي:
- هي صورة القاضي الذي يدعو لقتل كاتب من دون أيّ محاكمة عملًا بفتوى دينّية صادرة عن إحدى مرجعيات فريقه السياسي (الخميني) ويبرر في الآن نفسه ممارسة العنف من قبل مجموعات (عصابات) غير رسمية ضد فئات هشة حفظًا لما يعتبره نظام الخالق.
- وهي صورة قاضٍ لا يجد حرجًا في التدخّل السّافر في القضاء وممارسة الضغوط على اختلافها لتوجيه تحقيق قضائي، صودف أنه التحقيق في إحدى أكبر الجرائم الحاصلة في لبنان، كل ذلك انسجامًا مع مواقف فريقه السياسي.
- وهي صورة قاضٍ أعلن ليس فقط عن آراء سياسيّة ولكن عن انخراطه الكامل والمطلق بفريق سياسي إلى درجة إعلان نفسه ممثلا له ومعتمدًا منه وتحوّله إلى مدافع شرس عن رموزه (الكبار) في مواجهة الصّغار الذين ينتقدونهم ومدّاح لميّزاتهم مع كثير من التزلّف والتبعيّة. وما يزيد من التزلف والمديح سوءًا هو أنّه يستند ليس إلى تمتعهم بفضائل عُليا كالعدالة والنزاهة بل بفضائل سياسية كـ”الحنكة” (وهي الفضيلة التي أبرزها “ماكيافيل” في وصفه للحاكم الناجح) من دون احتفاظه بأية مسافة نقدية.
- وهي صورة قاضٍ لا يقيم مقامًا لأيّ من الحقوق والحرّيات الأساسية المحمية دستوريًا وفي مقدمتها حريتيْ المعتقد والتعبير، إنما يخضع التمتع بهذه الحريات لحسابات معتقداته الدينية والسياسية.
وهي صورة قاضٍ يستبيح التعرّض لفئات اجتماعيّة هشة انطلاقًا من مواقف مسبقة اجتماعية ودينية، من دون أي تعاطف أو رحمة. - وهي صورة قاضٍ يعبّر عن آرائه وبانتظام بكثير من الإسفاف والتنمّر ومن دون الالتزام بالحدّ الأدنى من الرصانة القانونية أو العلمية أو حتى المنطقية وقيم احترام الغير (الذين غالبًا ما يصفهم بالصغار أو الشاذّين وصولا إلى نعت تسعة نواب بـ “نوائب الشذوذ”).
بكلمةٍ هو قاضٍ اختار أن يظهر نفسه للعلن أنّه جزء من مشروع سياسيّ يمثّله ثنائي حركة أمل حزب الله في قياداته وأبعاده الدينية والعقائدية والسياسية والاجتماعية بتعصّب ومن دون أي مسافة نقدية أو مراجعة فكرية، والأخطر أنه يتبنى الفهم الشمولي للسياسة أي الفهم الذي يبرّر التضحية باستقلالية القضاء والحقوق والحريات، بما فيها الحريات المضمونة في الدستور والمواثيق الدولية بل وكرامات الناس، كلما اقتضت الحسابات أو المصالح السياسية ذلك. هو قاضٍ يُجاهر ويُفاخر بانتمائه السّياسيّ العصبيّ والمطلق وبتغليب هذا الانتماء على كل ما يفترض أن يتحلّى به من رصانة وعلم واحترام وعدم تمييز والتزام بالحقوق والحريات الأساسية. وبكلمة أخرى هو قاضٍ اختار أن يدوس كل ما يجدر أن يمتاز به القاضي أو كل ما هو قاضٍ فيه.