“المفكرة القانونية” تقدّم شكوى ضدّ القاضيين وسام المرتضى و بسام المولوي
(2) - العودة المستحيلة من تحيّز الوزارة إلى حياديّة القضاء
خلال الأيام الأخيرة، قدّمت “المفكّرة القانونيّة” إلى هيئة التفتيش القضائيّ شكويين في حق الوزيرين السابقين القاضيين محمد وسام المرتضى وبسام المولوي، وذلك ردًّا على إعلان نيّتهما العودة إلى القضاء تبعًا لانتهاء مهامّهما الوزارية. وإذ ذكّرت “المفكرة” في مستهلّ شكوييْها أنّ القانون لا يمنع عودة القضاة الذين شغلُوا مناصب وزاريّة إلى العمل القضائيّ، فإنّها رأتْ أنّ هذه العودة يجب أن تترافق مع مراجعةٍ دقيقة للتثبّت من انعكاسات الأداء الوزاريّ على شخصية القاضي والثقة العامة في قدرته على القيام بوظيفته بحياديّة واستقلاليّة. وعليه، ضمّنت “المفكّرة” شكوييْها سلسلةً من القرارات والأفعال والمواقف العلنيّة المتّخذة من هذيْن القاضيين في إطار أدائِهما الوزاري، والتي يتولّد عنها لدى أي مراقب موضوعي قناعة مشروعة وراسخة بعدم قدرتِهما على القيام بالوظيفة القضائية بحيادية واستقلالية.
وإذ دعت “المفكرة” هيئة التفتيش القضائي إلى التحقيق مع هذين القاضيين، أملت أن تعمل الهيئة من خلال ذلك على إرساء القواعد التي يجدر بأي قاضٍ أن يلتزم بها في حال اضْطلاعه بأي عمل غير قضائي، سواء كان وزاريًا أو استشاريًا في إدارة عامة، في حال رغب حقيقةً في ممارسة العمل القضائيّ مجدّدًا.
وإذ استعرضنا أمس أبرز ما تضمّنته الشّكوى المقدمة ضدّ محمد مرتضى، نستعرض هنا أهمّ ما تضمّنه الشكوى المقدّمة ضدّ بسام المولوي، علمًا أنّها تستند إلى وقائع علنيّة اطّلع عليها الرأي العام سابقًا ولا يمسّ تاليًا الكشف عنها إطلاقًا بسرّية التحقيق.
علامَ استندت الشكوى ضدّ بسام المولوي؟
خلال ولايته الوزارية، اضطلع القاضي المولوي بالعديد من القضايا العامة فائقة الأهمّية، واتّخذ فيها قرارات عديدة ملتبسة بعضها يُعنى مباشرة بالشأن القضائي، كما وأبدى العديد من المواقف السياسية والاجتماعية والقانونية المناقضة لمناقبيّة القضاة. وقد سجلت عليه المفكرة تحديدا المواقف الآتية:
إخضاع تنفيذ القرارات القضائية من الضابطة العدليّة لموافقة سياسية: أو حين عطّل القاضي المولوي قضية انفجار المرفأ
في تاريخ 22/9/2021، أي في اليوم التالي لنيل حكومة الرئيس ميقاتي الثقة، أصدر القاضي المولوي بصفته وزيرًا للداخلية قرارًا منع بموجبه الضابطة العدلية التابعة لوزارته من تبليغ الأوراق القضائية الصادرة عن المحقّق العدلي طارق بيطار في جريمة تفجير المرفأ.
وعدا عن أنّ قراره المذكور يخرج تمامًا عن صلاحياته كوزير للداخلية، فإنّه يشكل تعطيلًا للتحقيق في إحدى أخطر الجرائم المرتكبة في لبنان والتي أزهقت حياة مئات اللبنانيين وأصابت آلافًا منهم، علاوة عن تدمير نصف العاصمة. وأخطر من تعطيل قضية بعينها (وهو أمر خطير جدًا بحدّ ذاته)، فإنّه مهّد بذلك لإرساء ممارسة غير دستورية وغير قانونيّة تمسّ في الصميم مبدأ الفصل بين السلطات، من شأنها تمكين أيّ وزير داخلية من عرقلة أيّ تحقيق قضائي وإخضاع نفاذ القرارات القضائية لموافقة سياسية، من خلال منع الضابطة العدلية من تنفيذ مذكراته.
وقد أشارت “المفكرة” تبعًا لذلك إلى أن مجلس شورى الدولة أثبت في تاريخ لاحق (7/11/2023) عدم قانونية هذا القرار، بحيث اعتبر أنّ “الوقائع التي استند عليها … من شأنها أن تشكّل سابقةً خطيرة في تنفيذ الضابطة العدلية للمذكرات والاستنابات والتبليغات الصادرة عن القضاء، إذ إنّ إعطاء الصلاحية للضابطة العدلية بتقدير الوضع السياسي وملاءمته لتقرير تنفيذ الاستنابات والتباليغ الصادرة عن الجهات القضائية المختصّة يخرج بالكامل عن صلاحيّتها المنصوص عنها في القانون ومن شأنه أن يؤدّي إلى عرقلة سير العدالة وشلّ مرفق القضاء العدلي في كلّ مرّة تتذرّع الضابطة العدلية بأنّ تنفيذ الأوامر القضائية من شأنها أن تدخلها في تجاذبات سياسية تؤثّر على حياديّتها”.
ولم يكتفِ مجلس شورى الدولة بإبطال قرار القاضي (الوزير) المولوي على هذا النحو معرّيًا انزلاقه في عرقلة القضاء، بل أصرّ على تضمين قراره مخالفة أخرى لا تقل خطورة، قوامها تخلّفه عن إنفاذ قرارين إعداديّين صدرا عن مجلس شورى الدولة بتكليف الوزارة إبراز كتاب المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي الذي وضعه الوزير كمرجع في قراره المطعون فيه. وبلغةٍ حازمة، ذكّر شورى الدولة القاضي المولوي بما يفترض أن يكون بديهيًا بالنسبة إلى أي شخص مارس المهام القضائية، وهو أنّه “عندما يصدر القاضي أو الهيئة الحاكمة قرارًا باسم الشعب اللبنانيّ يكلّفان من خلاله الدولة إبراز مستند أو أمرًا معيّنًا، فإنّ هذا القرار ليس مجرّد تمنٍّ على الإدارة أو مراسلة داخلية أو طلبٍ إداري، بل هو قرار ملزم لها وواجب التنفيذ ولا يعود للإدارة ترف واستنساب تنفيذه من عدمه”. وعلى هذا الأساس، اعتبر المجلس أنّ تصرّف وزارة الداخليّة السلبيّ على هذا النحو واستمرار تجاهلها قرارات المجلس عمدًا وتمنّعها عن إنفاذِها إنّما يُعيب حسن سير العدالة، ويعدّ تمنّعًا عن تسهيل سير المراجعة كخصمٍ شريف، يحمل في طيّاته قرينة جدّية وأكيدة على صحة ادّعاءات المستدعي، ويُفقد دفوعات الدولة ووسائل دفاعها كل ركيزة مادية.
السلطة التنفيذية تتحوّل إلى رقيب على القضاء بحجة الحفاظ على الانتظام العامّ
الأمر الثاني الذي توقفت “المفكرة” عنده هو الكتاب الذي وجهه القاضي المولوي في تاريخ 22/2/2023، إلى هيئات عدّة أهمّها القوى الأمنية التابعة لوزارته، طالبًا منها بموجبها الامتناع عن تنفيذ أيّ قرار يصدر عن النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون في أيّ ملف يُثبت أنّه قد جرى فيه تقديم دعوى مخاصمة الدولة بشأن أعمالها لحين البتّ بها من قبل الهيئة العامّة لمحكمة التمييز. وقد أتى كتاب القاضي المولوي عطفًا على كتاب صدر عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي سوّغ فيه تدخّله في الشأن القضائيّ من خلال ادّعاء أنه مسؤول عن ضمان “الانتظام العامّ”. وقد سارع القاضي المولوي للتماهي مع كتاب ميقاتي من دون أن تسعفُه سيرته القضائية بالقدرة على الاعتراض منعا لسطو السلطة السياسية على القضاء.
ولإدراك خطورة هذه المخالفة، يقتضي لفت النظر إلى الأمور الآتية:
أوّلًا، أنّ كتاب ميقاتي قد صدر تبعًا لمراجعته من قبل مصرفيْن اشتكيا لديه من استمرار النائبة العامة في تحقيقاتها رغم تقديم دعوى مخاصمة ضدّها؛ وقد ادّعيا أنّ المادة 751 تفرض توقّف القاضي (وضمنا قضاة النيابة العامة) عن اتخاذ أي تدبير إلى حين البتّ بها الهيئة العامة لمحكمة التمييز، من دون حاجة إلى إثبات تبليغه دعوى المخاصمة. وعليه، يكون ميقاتي والقاضي المولوي قد أرسيا من خلال تدخلهما سابقة خطيرة تخول السلطة التنفيذية تلقّي شكاوى من متقاضين (مصارف) على أداء القضاء، واتخاذ ما يرونه مناسبا استجابة لهذه الشكاوى. وهما بذلك لم يستحوذا على صلاحيات هيئة التفتيش، بل أيضًا على صلاحيات الهيئات التي تقرر وقف القاضي عن العمل (وزير العدل).
ثانيًا، أنّ تدخل القاضي المولوي بصفته وزيرًا للداخلية لفرض احترام المادة 751، إنّما يؤدي عمليًّا في الظرف الذي يحصل فيه وتحديدًا تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز منذ بدء 2022 إلى تمكين أيّ مُتقاضٍ من وقف أيّ تحقيق أو دعوى مُقامة ضدّه مهما كانت أهميتها الاجتماعية، بمجرّد تقديم دعوى مُخاصمة ولو خلت من أيّ سبب جدّي، لأجل غير مسمّى. ومن شأن هذا الأمر أن يؤدّي عمليًّا لنسف سلطة القضاء ومرجعيّته وتاليًا مبدأ فصل السّلطات برمّته وحق التقاضي المكفول دستوريّا. ولا نبالغ إذا قلنا أن المادة 751 التي تحمّس القاضي المولوي لفرض تطبيقها من موقعه الوزاري إنّما تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مدخلٍ لتقويض العدالة ومأسسة الإفلات المعمّم من العقاب.
ثالثًا، أنه من الثابت في قرارات الهيئة العامة لمحكمة التمييز أصلًا عدم جواز تقديم دعاوى مخاصمة على خلفية قرارات صادرة عن النيابة العامة أو أي غير قرار غير مبرم.
وهذا ما نقرأه مثلًا في قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز رقم 119/2016 والذي رد طلب المخاصمة بشأن ورقة طلب صادرة عن نيابة عامة جبل لبنان حيث جاء حرفيا: “وحيث أن مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة العدليين هي طريق طعن استثنائي يلجأ إليه عند استنفاد الخصوم لسائر طرق الطعن الأخرى، بحيث يتناول الطعن حكمًا قضائيًا يحوز على الصفة المبرمة، وحيث أن ورقة الطلب التي تنظمها النيابة العامة لا تحوز صفة القرار القضائي المبرم الذي يمكن أن يشكل موضوع مداعاة الدولة لمسؤوليتها عن أعمال القضاة العدليين أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز”.
التخلّف عن تنفيذ القرارات القضائية الصادرة في حقه
أمر آخر تمّ التوقف عنده هو قرار وزير الداخلية بسام المولوي في تاريخ 24 حزيران 2022 بمنع أيّ تجمّعات تهدف إلى الترويج لما أسماه “الشذوذ الجنسي” وما أعقبه من أحداث. فلئن طعنت جمعية المفكرة القانونية مع آخرين بهذا القرار، معتبرة أنه يشكّل إخلالًا بحريات مضمونة دستوريًّا، أصدر مجلس شورى الدولة في 1 تشرين الثاني 2022 قرارًا بوقف تنفيذه.
وما أن تم الإعلان عن القرار، حتى توالتْ بيانات السخط من منظمات دينية في الغالب ضدّ قرار شورى الدولة، مع تأييد القاضي المولوي الذي لن ينفذ هذا القرار، كأنما القرار القضائي غير ملزم وبإمكان السلطة السياسية أن تنفذه أو لا تنفذه وفق ما تراه مناسبًا. وبدل أن يتدخل المولوي لوقف هذه “الظاهرة” الشعبوية المعادية لمرجعية القضاء، فإنه اعتبرها بمثابة حافز لاستكمال قراراته المتحيزة اجتماعيًّا ودينيًا وبناء صورته كمناضل ديني ضدّ البدع الاجتماعية. وعليه، لم يكتفِ القاضي المولوي بمخالفة القرارات القضائية والامتناع عن تنفيذها، بل ذهب في اتّجاه تقليب الرأي العام وبالأخص الجهات الدينية على القضاء، بما يشكل تحريضا ضدّ مجلس شورى الدولة مع ما قد يستتبع ذلك من إخضاع القضاء للشارع والقوى المحافظة.
وفي هذا الإطار، نقلت إحدى وسائل الإعلان عنه “أنّه لن يلتزم بهذا القرار الصادر عن مجلس شورى الدولة، ويعتبره كأنّه لم يكن، وحذّر المثليين في لبنان من القيام بأيّ أعمال منافية للطبيعة وللأخلاق والدين، وحذّرهم من ممارسة أيّة نشاطات أو تجمّعات أو لقاءات أو أو دعوات”. ولم يصدر أي نفي من الوزير لما نشر نقلًا عن لسانه.
وعليه، وبعد أيام من تبلّغه نسخة صالحة للتنفيذ، عاد القاضي المولوي ليصدر بصفته وزيرًا للداخلية، كتابًا ثانيًا في 18 تشرين الثاني 2022 عاد فيه التأكيد على مضمون كتابه السابق رغم أنه موقف تنفيذه قضائيًا، وعلى حظر أيّ “مؤتمر أو لقاء أو تجمّع يهدف إلى الترويج لظاهرة المثلية الجنسية”، بما يشكّل تحدّيًا صريحًا لقرار شورى الدولة.
وإذ عادت “المفكرة” وطعنت في القرار الجديد على أساس تعارضه مع قوة القضية المقضية وتحوير السلطة مع طلب وقف تنفيذه وهو ما تسجل في المراجعة رقم 25153/2022، فإنّ مجلس شورى الدولة لم يقم بأي تدبير حتى الآن متجاوزا كل المهل القانونية، على نحو يُخشى أن يكون حصل نتيجة المنحى السياسيّ والشعبويّ الذي اختطّه القاضي المولوي تبعا لإبلاغه قرار وقف تنفيذ قراره الأول.
وعليه، نكون شهدنا بالعين المجردة ليس فقط رفض القاضي المولوي تنفيذ قرارات قضائية، بل تأثيره السلبي على استعداد القضاة في القيام بدورهم القضائي في حماية الحريات في وجه القوى النافذة.
كما اشتكتْ أخيرًا “المفكرة” من المولوي لتعرّضه للحريات العامة المحمية دستوريا ولفئات هشة باسم “الدين”.
وقد خلصت تاليًا إلى رسم صورة القاضي المولوي على النحو الآتي:
- هي صورة القاضي الذي لا يجد حرجًا في استخدام نفوذه خلافا للقانون وبما يتجاوز صلاحياته، ليس فقط لتعطيل تدابير وقرارات قضائية بل لإرساء سوابق خطيرة تمهد لتقويض مبدأيْ فصل السلطات واستقلالية القضاء وتحصين نظام الإفلات المعمم من العقاب.
- وهي صورة القاضي الذي لا يجد حرجًا في تحريض الرأي العام ضدّ القرارات القضائية الصادرة بحقّه والهيئات القضائية التي أصدرتها على نحو يهيئ الأرضية لإخضاع القضاء لإرادة الشارع. وهذا ما تأكد مع الترهيب الحاصل على مجلس شورى الدولة والذي منعه من القيام بدوره في النظر في الطلبات المقدّمة إليه.
- وهي صورة القاضي الذي يتعامل مع القرارات القضائية الصادرة بحقه أو التكليفات القضائية له وكأنها مجرد “تمنّيات” (العبارة لمجلس شورى الدولة) بإمكانه مخالفتها وعدم الاستجابة لها خلافا لمبدأ الخصم الشريف.
- وهي صورة القاضي الذي لا يجد حرجا في التماهي مع برامج إعلامية اعتادت التنمّر على القضاء والاستهزاء بهم والقرارات القضائيّة التي أصدرُوها وذلك أمام مئات آلاف المشاهدين.
- وهي صورة القاضي الذي يعلن عن تحيزه السياسي من خلال التماهي مع القوى السياسية المعطلة لتحقيقات المرفأ وللتحقيقات في القضايا المالية المصرفية.
- وهي صورة القاضي الذي ينغمس علاوة على ذلك في النّضال الدينيّ إلى حدّ الاستئثار بالسّلطة التشريعيّة التي لها وحدها صلاحية تقييد الحريات ضمن ضوابط، والتمرّد على القرارات القضائية النافذة بحقه مقابل التماهي مع قوى شعبويّة ودينيّة منها قوى تعمل لفرض قيمها بالقوة مثل جنود الرب.
- وهي صورة القاضي الذي لا يجد حرجًا في استخدام عبارات شعبوية تنمّ عن آراء مسبقة بمعزل عن الحدّ الأدنى من الرصانة.
- وهي صورة القاضي التي تناقض تماما وبشكل لا لبس فيه صورة القاضي حامي الحقوق والحرّيات أو القاضي الذي يحترم الفئات الاجتماعية كافة وضمنًا أكثر الفئات هشاشة.