في ذكرى بدء الحروب الأهلية المسلحة : موسم جني الثمار “1”

بقلم وفيق الهواري

يصادف اليوم الاحد ١٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٥، ذكرى مرور ٥٠ عاماً على بدء الحروب الاهلية المسلحة في التاريخ اللبناني الحديث، والتي تؤرخ بحادثة بوسطة عين الرمانة، التي يمكن وصفها بالشعرة التي قصمت ظهر البعير.

حروب أهلية مسلحة لم تطل الكيان اللبناني فحسب، بل طالت كيانات مختلفة في المنطقة، وأتت ضمن خطة لاعادة رسم منطقة الشرق الأوسط بشكل جديد بما يتلاءم مع مصالح الغرب الاستعماري وعبر أدوات محلية واقليمية.

وفي لبنان، شهد الكيان حروباً أهلية مسلحة اطاحت بالمساحات العامة والمشتركة بين المقيمين على الاراضي اللبنانية والتي يمكن إطلاق اسم “الشعوب” اللبنانية عليهم.

في العام ٢٠٢٥، وبعد حرب إسرائيلية واسعة سعت الى انشاء منطقة عازلة جنوبية وامعنت في جراحة ديمغرافية واسعة نشهد مزيداً من تحلل مؤسسات الدولة، على الرغم من الحديث عن إعادة بناء الدولة الا أن اطراف الدولة العميقة، وفي مختلف المجالات، ما زالت تفضل بناء الدويلات على حساب الدولة الواحدة من خلال مزيد من النزاع على زعامة النظام الطائفي الذي بناه اطراف خارجية من خلال التعاطي مع المقيمين بصفتهم مجموعات ومكونات طائفية وليسوا افراداً ومواطنين.

وإذا كانت الجهات التي اتخذت قرارات الحروب الاهلية المسلحة بدأت بجني ثمارها من خلال التفتيت الداخلي والنزاعات بين المكونات، واذا كنا نسعى الى عدم تكرارها كما يتحدثون في الاحتفالات الفولكلورية التي تتم خلال هذه الفترة، فمن الضروري انتاج وعي جماعي للأسباب التي أدت الى هذه الحروب واوصلتنا الى ما وصلنا اليه اليوم. منذ عام ١٩٧٥ والنقاش يدور حول الأسباب التي رجحت نشوب الحرب المسلحة، وهل كان من الممكن تجنبها، ومعالجة أسباب النزاع بطرق اخرى؟

ان الاتفاق على العامل الحاسم الذي دفع “الشعوب” اللبنانية للجوء الى السلاح، يلعب دوراً اساسياً في منع تكرارها. وهذا لم يحصل حتى تاريخه، ولم تتم كتابة التاريخ الحديث للكيان اللبناني، وما زالت وجهات النظر تتوالى من جميع الجهات.

في قراءة لما حدث لا بد من البدء في قراءة العامل الداخلي ودوره في تجييش “الشعوب” اللبنانية، والعامل الخارجي ورؤيته للدور الذي يمكن ان تلعبه هذه “الشعوب” وفق الخطة التي يتطلع اليها الخارج.

لم يكن تأسيس الكيان اللبناني نتيجة حركة شعبية ناشطة تريد الاستقلال عن سلطنة عثمانية تناثرت أراضيها، بل كانت عملية التأسيس نتيجة تقاسم الميراث العثماني في المنطقة بين بريطانيا وفرنسا، والحاق اربعة اقضية بمركز جبل لبنان الذي يتمتع بخصوصية تكوينه بين الدروز والموارنة، وقد أضيفت اليهما مجموعات ومكونات مختلفة، وتحول الكيان الجديد الى مساحة تضم مجموعات لكل منها تاريخها وعاداتها وتقاليدها واساطيرها ونظرتها الى الاخرين.

ولكل مجموعة مرجعيتها السياسية وهي تتصرف بصفتها مجموعة رعايا لزعيم مناطقي او طائفي وليس كمواطنين لهم ذات الحقوق وعليهم ذات الواجبات.

وخلال السنوات التي سبقت الحرب الاهلية عام ١٩٧٥ جرت محاولات لبناء حركة شعبية تسعى الى التغيير، لكن قيادة هذه الحركة نظرت الى “الشعوب” اللبنانية وكأنها شعب واحد يعبر عن مجتمع متكامل الإنجاز والانقسامات في داخله هي افقية تعبر عن مصالح طبقية واضحة، والطائفية مرض يمكن معالجته وصولا الى التغيير المنشود. من الواضح أن قيادة الحركة الشعبية الواعدة استطاعت بناء مفهوم مصالح مشتركة بين مجموعات مختلفة لكنها لم تستطع إخراجها من موقعها الطائفي والتحاقها بالزعماء، فكان العمال يتظاهرون ويتحركون من اجل مصالحهم الاقتصادية ويعودون الى انتخاب زعماء طوائفهم في الانتخابات النيابية.

ويمكن القول ان الكيان اللبناني شهد محاولة بناء الدولة من خلال مؤسسات عامة، ومن خلال ربط المواطن مباشرة بالدولة، وهي المحاولة الشهابية التي فشلت لان اصحابها اعتقدوا بامكانية بناء دولة مواطنين من خلال النظام الطائفي المعتمد منذ عام ١٨٤٣، وفق ترتيبات شكيب أفندي العثماني مع دول اوروبية استعمارية.

هذه الحركة الشعبية اللبنانية رأت ان المشكلة بالمارونية السياسية ولم تول أهمية لمسؤولية النظام الطائفي الذي تتزعمه المارونية السياسية. وفي الوقت ذاته فان الحركة الشعبية لم تكن تهدف الى اللجوء للعنف من اجل التغيير، وهذا كان واضحاً بردود فعلها بعد اقدام السلطة على قتل عمال غندور في بيروت ومزارعي التبغ في النبطية، من خلال الاصرار على التغيير ديمقراطياً.

اذن، وعلى الرغم من حدة الانقسام الداخلي فان ذلك لم يدفع الاطراف المتنازعة للجوء الى العنف المسلح، الا ان النظام الطائفي الذي كانت تتزعمه المارونية السياسية ودفاعاً عن زعامتها اعلنت خطاباً داخلياً تدّعي فيه ان من يريد الاصلاح يريد إلغاء الوجود المسيحي في الكيان وأن الدفاع عن زعامة الكيان هو دفاع عن الوجود المسيحي.

هذا الخطاب التعصبي استخدمته الطائفية السنية بعد اقصر حرب أهلية شهدها لبنان بعد ٧ ايار ٢٠٠٨ والطائفية الشيعية، وخصوصاً بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة والتي حاول العدو إظهار ان حربه العدوانية تطال مكون واحد من المكونات اللبنانية لكن النتائج أظهرت ان حربه تسعى لتفتيت الكيان والرجوع الى منطق الدويلات المتنازعة.

وحتى هذه اللحظة لا يبدو ان هناك محاولات جادة رسمية او غير رسمية لاعادة بناء الداخل اللبناني على اساس اننا افراد مواطنين وليس على اساس اننا رعايا لزعماء الطوائف، هذا الواقع يستخدمه العامل الخارجي الذي يعمل على إعادة الكيانات الموجودة الى مكوناتها الأولية العرقية والدينية.

وهذا ما سنحاول نقاشه غداً…

اخترنا لك