المفكرة القانونية
منذ أقلّ من أسبوع وتحديدًا في 10 نيسان الماضي، انتهت مسيرة النائب العامّ المالي علي إبراهيم في القضاء بعد بلوغه سنّ التقاعد. ولعلّ أبرز ما تميّزت به هذه المسيرة، التقاعس عن التحقيق في ملفات الفساد المالي الكبرى التي شهدها لبنان منذ تعيينه نائبا عاما ماليا في 21/9/2010 إلى يوم تقاعده.
ولكن وإلى جانب هذه الميزة، تعايش القاضي إبراهيم لأكثر من 10 سنوات في وضعية تناقض مصالح، بفعل إشغاله منصب عضو في هيئة التحقيق الخاصة (2014- 2025) المسؤولة عن التّدقيق في شبهات تبييض الأموال. وقد برز تناقض المصالح بشكل واضح جدّا مع بدء الملاحقة ضدّ رياض سلامة نفسه على خلفية قضية عمولات فوري بعدما أعلن إبراهيم تنحيه عن النظر فيها بفعل عضويته في هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها الحاكم نفسه. وقد ترافق تقاعس النائب العام المالي المزمن عن القيام بمهامه بالتدريس في أكثر من جامعة ولساعات يعتقد أنها تجاوزت بكثير الساعات المسموح بها قانونًا.
فضلا عن ذلك، تولى القاضي إبراهيم وظيفة رئيس صندوق تعاضد القضاة منذ 2010، على نحو أخلّ تماما بأبسط مبادئ الشفافية، وأهمها احترام حق الوصول للمعلومات أو نشر الموازنة السنوية. كما لم يجد القاضي إبراهيم حرجًا في فرض رسوم لزيادة إيرادات الصندوق، بخلاف المبدأ الدستوري بعدم جواز فرض أي ضريبة أو رسم إلا بقانون.
إلا أنه وقبل المضي في التذكير ببعض محطات عمل القاضي إبراهيم، لا بدّ من التّذكير بداية بنجاح المجلس الدستوريّ في إفشال محاولة تمديد سن تقاعده لمدة سنة ونصف.
القاضي الذي أفشل المجلس الدستوري تمديد سنّ تقاعده
كاد القاضي إبراهيم أن يكون القاضي الأول الذي يحظى بقانون لتمديد سنّ تقاعده في الجمهورية اللبنانية (القانون 327/2024)، لولا المجلس الدستوري الذي أبطل هذا القانون بموجب قراره الصادر في تاريخ 7/1/2025. وفيما عزا النائب علي حسن الخليل أثناء مناقشات الهيئة العامّة تمديد سن تقاعد القاضي إبراهيم بضرورة الحؤول دون فراغ مركزه، فإن رئيس المجلس نبيه بري قد أعلن المصادقة على القانون من دون طرحه للتصويت وفق الأصول ومن دون أن يتسنّى تاليا للنواب مناقشة مدى قانونية هذا التمديد وفق ما أشار إليه قرار المجلس الدستوري بوضوح كلّي ضمن الحيثيات التي قادته إلى إبطاله.
النائب العام المالي الذي انكفأ عن الدفاع عن أموال الدولة
ما تم توثيقه عن أعمال النائب العام المالي، يؤشّر بوضوح إلى استعداده على التخلي عن الدفاع عن الحق العامّ وحقوق الدولة في قضايا مالية بالغة الخطورة. إلا أن ما نعرفه عنه هو أقل بكثير مما فعله أو لم يفعله، وهو أمر ليس بإمكان أحد معرفته من دون الولوج إلى سجلّات النيابة العامة المالية كاملة والتدقيق فيها. وفيما يرجّح أن يكون غلق ملفات ماليّة كبرى تمّ في حالات كثيرة نتيجة ضغوط معيّنة، فإن الإدعاء في بعض الملفات من قبل إبراهيم أتى هو الآخر نتيجة ضغوط صعب عليه جبهها.
ومع التشديد مجددا على عدم إمكانية إجراء جردة تقييم لأدائه في النيابة العامة المالية طوال السنوات ال 15 التي شغل فيها هذا المركز من دون النفاذ إلى سجلات النيابة العامة المالية (وهو أمر بإمكان هيئة التفتيش القضائي وحدها القيام به)، أمكن تسجيل الأمور الآتية:
- إن القاضي إبراهيم لم يتخذ أي تدبير من أي نوع كان بشأن نتائج التدقيق الجنائي على حسابات مصرف لبنان وما كشفته بشأن ضياع 76 مليار د.أ بفعل الهندسات المالية، رغم تكليفه من النيابة العامة التمييزية صراحة القيام بذلك.
- إن النائب العام إبراهيم رفض صراحة وتكرارًا طلب النائب العام التمييزي السابق غسان عويدات الادعاء على حاكم مصرف لبنان في 2023 في قضية عمولات فوري بسبب الحرج الذي استشعره وذلك انطلاقا من التحقيقات الموسعة التي أجراها القاضي المالي جان طنوس.
- وفيما رفض القاضي إبراهيم تولّي الادّعاء في القضية بحجة أنه عضو في هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها الحاكم المطلوب الادعاء عليه (وهو أمر يسجل عليه ويعرّي وضعية تناقض المصالح الذي ارتضاها منذ 2014)، فإنه رفض أيضا إحالتها إلى أيّ من القضاة المساعدين له (قضاة النيابة العامة المالية)، على الرغم من كون القضية تدخل بداهةً ضمن صلاحيّات هذه النيابة العامّة لارتباطها باختلاس موظف عامّ مالا عامّا وتحقيقه إثراء غير مشروع وتبييض أموال.
وقد تغيّر توجّه القاضي إبراهيم بعد انتهاء ولاية رياض سلامة، أي بعد زوال صفة هذا الأخير كرئيس لهيئة التحقيق الخاصة، بدليل ادّعائه ضد سلامة في قضية عمولات أوبتيموم أمام قاضي تحقيق بيروت، إلا أنه هنا أيضا اتّجه نحو حصر الادّعاء ضمن نطاق ضيّق، بحيث تناول حصرًا عمولتيْن يحتمل أن يكون سلامة تلقّاهما تقارب قيمتهما 100 مليون د.أ، فيما كانت برزت أدلّة حسابيّة على وجود عمولات بقيمة 8 مليارات د.أ.
- كما سجّل التقاعس نفسه بشأن الهدر الحاصل في سياسات الدعم وما شابها من إثراء غير مشروع وتخزين المواد المدعومة من قبل مستوردي المواد المدعومة وموزّعيها على حساب أصحاب الحق بالدعم؛ أو أيضا التقاعس في شأن القروض الميسرة الممنوحة من مصرف لبنان. هذا دون الحديث عن التهريب والتهرب الضريبي.
- وقد انكشف تقصير القاضي إبراهيم بشكل واضح في قضايا عدّة مقارنة مع ما ذهب إليه قضاة آخرون. وليس أدل على ذلك من قضية سوناطراك أو قضية الفيول المغشوش والتي عملت المفكرة القانونية على توثيقها. فبعدما اتّخذ علي إبراهيم قرارًا بحفظ الملفّ تحت ذريعة “أنّ الخطأ التقني وارد ويُمكن أن يصيب أيّ شحنة نفط قادمة إلى لبنان”، أثبتت التحقيقات التي أجرتْها النيابة العامة في جبل لبنان تسليم الدولة شحنات عدة من الفيول المغشوش والذي تقل قيمته بما يقارب 30% من الفيول المتفق على تسليمه. وندرك حجم التقصير في هذا الخصوص إذا عرفنا أن الدولة دأبت على تسديد قرابة مليار د.أ سنويا بموجب اتفاقيتها مع شركة سوناطراك للجهات الموردة، وذلك طوال 15 سنة (2005-2020).
- التقاعس نفسه بشأن الهدر الحاصل في قطاع الاتصالات. وليس أدلّ على ذلك من امتناع النيابة العامة عن اتخاذ أي تدبير تبعا لصدور تقرير ديوان المحاسبة بحصول هدر يقارب 6 مليار د.أ أو بشأن ال 100 مليون د.أ المتصلة باستئجار وشراء مبنييْ تاتش، حيث لم تقترنْ حتّى اليوم الشّكوى المباشرة المقدّمة من وسيم منصور ضد وزيرين والشركة المشغلة السابقة، بادعاء من النيابة العامة المالية
- التقاعس نفسه بشأن قضايا المقالع والكسارات، رغم صدور تقرير من وزارة البيئة بالتعاون مع وكالة الأمم المتحدة للتنمية بتقدير حقوق الدولة الضائعة بأربعة مليارات د.أ.
- قضية أخرى من المهمّ الإشارة إليها وهي قضية النفايات التي بلغ التخاطب بشأنها أوجّه في 2015 مع ما سمّي آنذاك “حراك النفايات” أو حراك طلعت ريحتكم. فلئن ادّعى النائب العام المالي في هذه القضية في سنة الحراك نفسها وتحت وطأته، فإنه لم يتخذ أي إجراء ضد قرار منع المحاكمة الذي اتخذه آنذاك قاضي التحقيق الأول غسان عويدات.
وما إلى ذلك من قضايا كثيرة لزمت فيها النيابة العامة المالية موقف المتفرجة أو ادعت فيها إرضاء للرأي العام من دون إجراء تحقيقات جدية (قضية سدّ بريصا نموذجا)، كل ذلك من دون إيلاء حقوق الخزينة العامة التي أؤتمنت عليها ما تستحق من جهود.
وضعية تضارب مصالح: نائب عام مالي وعضو في هيئة التحقيق الخاصة
كما سبق بيانه، وضع النائب العام المالي نفسه في وضعية تضارب مصالح بقبوله عضويته في هيئة التحقيق الخاصة التي يفترض أن تجري التحقيقات المتصلة بشبهات تبييض الأموال وصولا إلى تجميد الحسابات والموجودات المصرفية المشمولة بها. ويتأتّى تضارب المصالح من أنه يفترض بالنائب العام المالي أن يكون المرجع الأكثر نشاطا في مطالبة هيئة التحقيق الخاصة بالتدقيق في حسابات الذين قد يشتبه بهم بارتكاب جرائم مالية، مما يجعله بصورة طبيعية في موقع طالب التحقيق فضلا عن كونه عضوا في الهيئة التي ستنظر في هذا الطلب. وقد تفاقم تضارب المصالح بعدما طالت شبهات تبييض الأموال حاكم مصرف لبنان (الذي يرأس الهيئة) وجزءا واسعا من القطاع المصرفي.
وفيما يفترض أن تدعو هذه التجربة إلى إعادة النظر في كيفية تكوين هيئة التحقيق الخاصة وبخاصة لجهة استبعاد حاكم مصرف لبنان عن رئاستها، يؤمل أن لا يتكرر أبدا تعيين النائب العام المالي في هذا المنصب.
رئاسة صندوق تعاضد القضاة
لحظت “المفكرة القانونية” في ورقتها البحثية حول إصلاح القضاء في لبنان: “رواتب القضاة وملحقاتها” مخالفات عدة لإدارة الصندوق، أهمها الآتية:
- إخلال النيابة العامة المالية بحق العامة بالوصول إلى المعلومات. وعليه، رفضت النيابة العامة المالية الاستجابة لطلبات المفكرة القانونية بتسليمها موازنة الصندوق، نظامه الداخلي، النظام الخاص الذي يفترض أن يضعه مجلس إدارته بالاتفاق مع ديوان المحاسبة.
- إن مجلس إدارة الصندوق قد استحدث في تاريخ 14 أيار 2014 في قراره رقم 137 رسوما جديدة لتغذية صندوق تعاضد القضاة، بما يخالف القاعدة الدستورية التي تنيط فرض الرسوم بالمجلس النيابي حصرا.
- وقد تعمق نقص الشفافية ومخاطره بعد 2019 وبخاصة بعدما أصبحت المبالغ التي تسدد للقضاة من خلال صندوق تعاضد القضاة أعلى من الرواتب المخصصة لهم قانونا. وقد نما للمفكرة القانونية مؤخّرا مقاطعة بعض أعضاء مجلس إدارة الصندوق أعماله بعدما تمّ حجب المعلومات عنهم أيضا بقرار من القاضي إبراهيم.
خلاصة: استحقاق ما بعد إنهاء مهام إبراهيم؟
ممّا تقدم، يستدعي رحيل إبراهيم اتّخاذ خطواتٍ مُلحّة، أولها تعيين نائبٍ عامّ ماليّ جديد تتوفر لديه مواصفات تضمن عدم تكرار تجربته، علمًا أن هذا التعيين يتمّ بقرار من الحكومة بناءً على اقتراح وزير العدل، من دون أن يكون لمجلس القضاء الأعلى أيّ دورٍ في هذا الخصوص.
ومن أهم الأسئلة التي يجدر طرحها هنا:
هل سيستبق وزير العدل عادل نصّار التّعيين في هذا المركز بدعوة القضاة الراغبين بتقديم ترشيحاتهم إليه على نحو يخوله اختيار الأكفأ أم سيحصل التعيين هنا أيضا ضمن أروقة أصحاب القرار بعيدًا عن أعين الرأي العام؟ والأهم هل ستعدّ وزارة العدل نفسها ملزمة بتخصيص هذا المركز للطائفة الشيعية عملا بالتقليد المعتمد منذ الطائف ولو خلافا للمادة 95 من الدستور التي تمنع تخصيص أي مركز لأي طائفة، وللبيان الوزاري وأسوة فيما فعلته في التعيينات الأخرى (رئاسة شورى الدولة، رئيس هيئة التفتيش القضائي، النائب العام التمييزي) أم أنها ستغلّب معيار اعتبار الكفاءة والولاء للمجتمع على أي اعتبار آخر، سواء كان سياسيا أو طائفيا؟ وسواء قررت الاستمرار في مخالفة المادة 95 أم لا، ما هي الإجراءات التي ستعتمدُها للحؤول دون سيطرة الاعتبار السياسي على التعيين وتاليا دون سيكرة أيّ طرف سياسي على قرار النيابة العامة المالية؟
وأيا يكن القاضي المختار لإشغال هذا المركز، يؤمل أن يعمد بالتنسيق مع هيئة التفتيش القضائي إلى إجراء تدقيق في سجلّات النيابة العامة الماليّة وتحقيقاتها خلال السنوات السابقة، على نحو يضمن استلحاق ما أمكن استلحاقه من تقصير أو تخلّ ومحاسبة من أمكن محاسبته.