الكوتا البلدية في وجه الذكورية المقنّعة : بين التقاليد والحق في التمثيل

بقلم كوثر شيا

رئاسة البلدية ليست منصبًا سياسيًا بالمعنى الحزبي، بل هي مسؤولية إدارية وتنموية تهدف إلى تحسين الخدمات، تطوير المشاريع، وتعزيز البنية التحتية للبلدة أو القرية. ومع ذلك، لا تزال هذه المسؤولية تُعامل في مجتمعنا كجزء من لعبة النفوذ السياسي، مما يُستخدم كذريعة لإقصاء النساء عن الترشح بحجة أن السياسة “ليست من شأنهن”.

هذا الفهم الخاطئ لدور البلدية أدى إلى تعميق الفجوة بين الجنسين في الحكم المحلي. فالمرأة، مهما بلغت من كفاءة وخبرة في الإدارة والتنمية، تجد نفسها في مواجهة عراقيل اجتماعية وثقافية تمنعها من الترشح أو حتى من ممارسة دورها الكامل عند وصولها إلى المجالس البلدية. وحتى عندما تصل إلى هذه المجالس، غالبًا ما تُحصر في مواقع ثانوية، بينما تبقى القرارات الرئيسية بيد الرجال. هذا التهميش لا يرتبط بالكفاءة، بل بنظام اجتماعي متجذّر يُكرّس الفصل بين الأدوار، حيث تُشجَّع النساء على الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والخيرية، في حين تُحتكر الإدارة والقرارات السياسية من قبل الرجال.

المجتمع اللبناني: بين التقاليد والإقصاء غير المباشر

في العديد من القرى والمناطق الريفية، لا تزال العادات والتقاليد ترسم حدودًا واضحة بين أدوار النساء والرجال. ففي المناسبات العامة، سواء في الأفراح أو الأحزان، ينقسم المجلس إلى قسمين: مجلس للنساء وآخر للرجال، حيث يُخصص الحديث في المجالس النسائية لمواضيع مثل الأسرة، الصحة، والمساعدات الاجتماعية، بينما يُناقش الرجال القضايا السياسية والإدارية وكأنها شأن حصري لهم.

وهذا الانقسام يمتد إلى المجالس البلدية أيضًا، حيث تُحصر السياسة والإدارة بالرجال، بينما يُتوقع من النساء التركيز على العمل الاجتماعي. وعندما تحاول المرأة خوض الانتخابات البلدية، تُواجه بعقبات، ليس فقط من المجتمع، بل أحيانًا من داخل عائلتها نفسها.

“تقسيم الجُبّ”: عائق إضافي أمام المرأة

في النظام العائلي التقليدي، يُتخذ قرار الترشح وفقًا لمبدأ “تقسيم الجُبّ”، حيث تُوزع المناصب بناءً على الروابط العائلية وليس الكفاءة. وغالبًا ما يُعطى الدور للرجال لأن المجتمع الذكوري يرى أنهم الأجدر بتمثيل العائلة. حتى إذا كانت المرأة مؤهلة ولديها خبرة، فإن قرار ترشحها قد يخضع لفيتو ضمني من والدها، زوجها، أو إخوتها، الذين يعتبرون أن السياسة ليست مكانًا مناسبًا للنساء.

وإن حصلت على دعم عائلتها، تواجه الذهنية الذكورية داخل المجالس البلدية، حيث يتم تهميش دورها وتُترك القرارات المصيرية للرجال وحدهم. هذه الظاهرة ليست حكرًا على القرى، بل موجودة حتى في المدن، حيث تسود ثقافة سياسية مغلقة تجعل من الصعب على المرأة اختراق دوائر القرار.

لماذا الكوتا النسائية ضرورية؟

الكوتا النسائية ليست ترفًا أو امتيازًا، بل هي آلية لضمان تمثيل أكثر عدالة وشمولًا في المجالس البلدية، بما يعزز التنمية المستدامة والتوازن المجتمعي. ومن أبرز فوائد الكوتا:
• تحقيق الشفافية والمساءلة: وجود المرأة في المجالس يساهم في تقليل الفساد وتحسين الأداء الإداري.
• ضمان تنمية أكثر شمولًا: النساء يملكن رؤية تركّز على قضايا الصحة، التعليم، والخدمات الاجتماعية، وهي ملفات جوهرية في أي إدارة ناجحة.
• إحداث تغيير ثقافي طويل الأمد: مشاركة النساء في مواقع القرار تعزز القبول المجتمعي لدورهن، وتشجّع الأجيال القادمة على المشاركة من دون خوف أو تردد.

كما قالت جويل أبو فرحات من منظمة “فيفتي فيفتي”:
“الكوتا جسر عبور نحو المساواة المطلقة.”
ومن الضروري أن نعمل معًا لعبور هذا الجسر نحو مستقبل أكثر عدلًا وإنصافًا.

دور الشباب في دعم التغيير وإشراك المرأة في التنمية

لا يمكن إحداث التغيير الحقيقي دون مشاركة الجيل الجديد، حيث يمتلك الشباب طاقة خلاقة وقدرة على كسر النماذج القديمة. وفي مجتمعنا، لا يزال الفصل قائمًا بين الأدوار: يُشجَّع الشباب على خوض السياسة، بينما يُطلب من الفتيات التركيز على العمل الاجتماعي. لكن هذه المعادلة بدأت تتغيّر.

فإشراك المرأة في العمل البلدي ليس فقط حقًّا مكتسبًا، بل هو عنصر أساسي لتحقيق توازن الطاقة بين الأجيال، والانتقال من قرارات فردية إلى رؤى مجتمعية متكاملة تُسهم في التطوير الحقيقي.

ثورة على النمطية: لوائح جديدة خارج الجُبّ

في هذا السياق، يبرز توجه جديد بين الشباب: تشكيل لوائح خارج إطار “الجُبّ” العائلي، والابتعاد عن ترشيح أشخاص فقط لأنهم ينتمون إلى عائلة معيّنة. الجيل الجديد يطمح إلى اختيار مرشحين يتمتعون بالكفاءة والالتزام، حتى ولو لم يكونوا مدعومين من عائلاتهم، بل ينطلقون من مبادرة فردية حقيقية ورغبة بالمشاركة الفاعلة في تطوير بلداتهم.

في المقابل، لا تزال بعض العائلات متمسكة بالتقليد، بحيث ترشّح شخصًا فقط لكونه ينتمي إلى الجُبّ، حتى وإن لم يكن يتمتع بالحد الأدنى من الكفاءة. المهم بالنسبة لهم أن يكون للعائلة ممثل، لا أن يكون هناك مشروع بلدي ناجح. هذا التفاوت في الرؤى، وظهور وجوه جديدة غير مرتبطة بعائلاتها سياسيًا، أدّى إلى ولادة عدة لوائح في البلدات، تمثّل خطوة ثورية نحو كسر النمطية.

رغم غياب التنسيق الكامل أو وضوح البرامج في بعض هذه اللوائح الجديدة، إلا أن الفكرة بحد ذاتها تحمل روح التغيير، وتعكس رغبة صادقة في تقديم صورة مختلفة للبلديات المستقبلية.

نحو مصالحة بين الماضي والحاضر… من أجل مستقبل مزدهر

لكن الطريق لا يكون دائمًا بالمواجهة، بل يمكن أن يكون بالتكامل. فدمج التسمية العائلية مع ترشيح أشخاص كفؤين وموعودين، والانفتاح على فكر الشباب الطموح، قد يكون الجسر الحقيقي الذي يكسر الهوة بين الماضي والحاضر، وينقل المجتمعات إلى مستقبل مزدهر، فيه كل فرد له دور.

حين تتوحد العائلات والوجوه الجديدة ضمن برامج إنمائية واجتماعية واضحة، يصبح بالإمكان الخروج من الفكر الأحادي والدخول إلى عالم جديد مليء بالتحديات… والنجاحات.
هكذا تُبنى بلديات لا تُقصي أحدًا، ولا تتجاهل صوتًا، بل تعكس صورة مجتمع ناضج، موثوق، ومُتّحد.

إن الحل ليس في إلغاء أحد، بل في العمل معًا بروح تعاطفية، شراكة حقيقية، وهدف مشترك: بناء مستقبل بلدي نعتز به جميعًا، تحت سقف الإنماء لا الولاء، والمصلحة العامة لا المحسوبيات.

اخترنا لك