احتكار #السلاح : الحق والممارسة

بقلم رفيق خوري

في أواخر الستينات من القرن الماضي خسر لبنان ما لا يفرّط به أي بلد بإرادته: كون الدولة “محتكرة العنف الشرعي”، حسب المبدأ الذي عبّر عنه المفكر الألماني ماكس فيبر. وهذا أمر بالغ الخطورة، لا فقط على وظيفة الدولة بل أيضاً على الوجود الوطني. والأخطر والأسوأ، مع شلل الدولة، هو إجبار السلطة على التسليم بالعنف غير الشرعي الذي تمارسه فصائل مسلحة من خارج الشرعية كأنه قدر لا يُرد.

والمبرر الشائع هو أن قتال إسرائيل يعطي “شرعية قومية وإسلامية” لبندقية المقاومة، ولو أنهى ذلك استقرار لبنان وقاده إلى حرب مدمرة واحتلال إسرائيلي من دون التقدم خطوة واحدة على أرض فلسطين. وحتى اليوم، فإن لبنان لا يزال يعاني لعنة “اتفاق القاهرة” مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1969، وإن جرى إلغاؤه رسمياً بعد سنوات.

فما كان نوعاً من “رخصة” لعمليات فدائية ضد إسرائيل من منطقة العرقوب صار فتحاً لجبهة حرب تجمع كل أنواع الميليشيات، ثم انتقلت الحرب إلى الداخل. وما بقي من احتلال إسرائيلي بعد اجتياح العام 1982 وترحيل المنظمات الفلسطينية كان بداية لتأسيس “حزب الله” على يد الحرس الثوري الإيراني. لا أي حزب بل منظومة أمنية-عسكرية-إيديولوجية قاتلت إسرائيل وحررت الجنوب، ثم تحكمت بمفاصل السلطة في لبنان تحت مظلة الوصاية السورية والإيرانية، قبل أن تشارك في حرب سوريا دفاعاً عن نظام الأسد حتى سقوطه، وتحمي استخدام الصواريخ من جانب حركة “حماس”. فحرب 2006 انتهت بزيادة تسليح “حزب الله” وما سماه “النصر الإلهي”. و”حرب الإسناد” قادت إلى ضربة قوية له وتدمير كبير في لبنان وقبول اتفاق لسحب السلاح خارج الشرعية وتطبيق القرار 1701 بكل مندرجاته.

وكان على اللبنانيين أن يعانوا أخطر الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، والانتظار طويلاً قبل أن يسمعوا تحت قبة البرلمان تأكيد رئيس الجمهورية جوزاف عون في خطاب القسم، ورئيس الحكومة نواف سلام في البيان الوزاري، على “حق الدولة في احتكار السلاح”.

وليس أهم من إعلان الحق سوى ممارسته عملياً، بصرف النظر عن الطريقة والوسيلة لتنفيذه، شرط ألا تكون استمراراً للمماطلة وتكريس دور السلاح خارج الشرعية وقرار استخدامه. والسؤال بعدما أصبح موضوع السلاح على جدول الأعمال، هو: هل يدور البحث في ظل الاقتناع بأن اللعبة انتهت بعد التجربة القاسية للسلاح في الحرب أم في ظل الإصرار على استمرار التسلح، والحفاظ على دور “المقاومة الإسلامية” بالشكل نفسه أو بشكل آخر؟

ذلك أن ما فشل ليس فقط رهان “حزب الله” و”حماس” وبقية الفصائل المرتبطة بالحرس الثوري على دور السلاح في ردع إسرائيل ومنعها من تدمير غزة ولبنان، قبل الحديث عن تحرير فلسطين، بل أيضاً استراتيجية “العسكرة” التي قادتها الجمهورية الإسلامية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة ضمن العمل للمشروع الإقليمي الإيراني. وما فعلته التحولات المتسارعة في المنطقة كانت بدايته في غزة ولبنان قبل سوريا.

فلا مجال لخداع النفس من جديد عبر الربط بين السلاح واستعادة الأرض المحتلة في الجنوب، لأن الاحتلال جاء في ظل السلاح، ولأن استعادة الأرض مهمة حصرية للدولة. ولا عاقل يتردد في الخيار بين “شراكة” مع الأصدقاء الدوليين والأشقاء العرب، وإعادة الإعمار والاستثمار والنهوض الاقتصادي واستعادة الأرض وترسيم الحدود، وبين عزلة مع السلاح تؤدي إلى حرب إسرائيلية وحشية جديدة.

و”الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”، كما يقول المثل.

اخترنا لك