بقلم عقل العويط
أيُحكى حقًّا، اليوم، عن إعادة إنتاج لبنان؟
إذا كان الأمر كذلك، فالمسألة تقتضي ألّا تكون على طريقة لبنان الآفل هذا، بل أخذًا في الاعتبار جملة مكوّناتٍ ومعطياتٍ تنشّأت عليها بلادنا، وجملة تجاربَ ومتغيّراتٍ عايشتها وطرأت عليها، إلى خبراتٍ وعِبَرٍ ودروسٍ ومآسٍ يمكن استخلاصها والإفادة منها.
أستحضرُ كلّيّة التربية (ومعها الجامعة اللبنانيّة كلّها قبل أنْ تخرب)، ليس من باب الحنين إلى زمنٍ مضى، وإنّما من باب المعنى والدلالة، وخصوصًا لأنّ بعضًا منّي، هو وليدها، وصنيع قهوتها ومقهاها وناسها ومقاعدها الجامعيّة.
وأستحضرُ معها السؤال الأساس: هل يمكن إنتاج “مكانٍ” (وطنيّ، مجتمعيّ، مدنيّ، عقليّ، فكريّ، ثقافيّ) يكون هو المكان اللبنانيّ – الجديد، بجوهره، بمبناه، ومبتغاه، ليس فيه كلّيّةٌ للتربية، أو ما يوازي نوعيّة تلك الكينونة، باعتبارها أحد المختبرات الموهوبة التي صنعت لبنان التعليميّ التربويّ الثقافيّ، وباعتبارها إمكانًا قد يساهم، اليوم، في صناعة بوتقةٍ مدرسيةٍ تكون بمثابة منارةٍ أو “جمهوريّةٍ” قادرةٍ على فهم العصر وناسه وجماعاته وتعقيداته وتحدّياته الكبيرة؟
لم يكن يخطر في بال الذين أنشأوا كلّيّة التربية، أنّها ستكون مختبرًا لبنانيًّا مصغّرًا يتفاعل ومختبر المدينة في الستّينات والسبعينات من القرن الماضي، ويتكامل وإيّاه.
كان الهدف من إنشائها إعداد الأساتذة، وخصوصًا أساتذة التعليم الرسميّ الثانويّ، الذين كوّنوا “طبقةً” تعليميّةً، ثقافيّة، مجتمعيّة (متوسّطة)، أنجبت نخبًا من المعلّمين في الاختصاصات كلّها. وهؤلاء أنتجوا أجيالًا متمكّنة من الطلّاب، تخطّوا مفهوم التعليم والتعلّم الضيّق إلى مفاهيم الثقافة والأنسنة والاجتماع في أعمق معانيها ودلالاتها الخلّاقة.
ليس من النافل في ذلك الزمان اللبنانيّ – البيروتيّ، أنّ الطلّاب أولئك ما كانوا ينعمون بالدخول إلى جنّة كلّيّة التربية، وبالمنحة الماليّة التي كانوا يحظون بها، إلّا من خلال امتحانٍ صارمٍ للدخول (بمراقبة مجلس ممثّلي الطلّاب أنفسهم) يخضع لمعايير الكفاءة دون سواها من “المعايير” القائمة على التوزيع الطائفيّ والمحسوبيّة السياسيّة والمناطقيّة.
كنتُ واحدًا من الذين “صنعتهم” كلّيّة التربية، فساهموا في “صناعة” لبنان الثقافيّ، والأدبيّ، ولا سيّما الشعريّ والروائيّ، فضلًا عن لبنان التربويّ والتعليميّ والمجتمعيّ، الذي دمّرته الحرب، ونخرت نخاعه الشوكيّ، الروحيّ والمادّيّ.
ومثلما كانت منطقة رأس بيروت، وشارع الحمراء، والمقاهي، والجامعات الأربع (اللبنانيّة والأميركيّة واليسوعيّة وكلّيّة بيروت الجامعيّة التي أصبحت تُعرَف بالجامعة الأميركيّة اللبنانيّة)، كانت كلّيّة التربية، بالتوازي معها، نموذج المدينة المصغّر، وقد قيل يومها إنّها عاصمة العالم العربيّ، ودرّة مدنه الثقافيّة.
الخلاصة تنطوي، اليوم، على إشكاليّةٍ سوسيولوجيّةٍ وسياسيّةٍ، معقّدة ومركّبة، مفادها أنّ “عودة” بيروت (ولبنان) لا تكون باللغو، والشعارات، بل بـ”إعادة خلق” المكان والمختبر والمناخ و… المعايير، وفق معطيات العصر الراهن، وجماعاته. لكنْ، ليس ما يوحي على الأرجح أنّ هناك مَن يولي هذه المهمّة الإعجازيّة الاهتمام البنيويّ المطلوب.
فإذا كان يُحكى حقًّا عن إعادة إنتاج بيروت (ولبنان)، فإنّ “مكانًا” يشبه كلّيّة التربية، قد يكون مختبرًا موضوعيًّا مصغّرًا لتحقيق ذلك. لكن هيهات!