بقلم غسان صليبي
دعونا لا نضيّع المزيد من سنوات العمر على طريق الاصرار على فبركة افكار ورؤى لا تتناسب مع واقع مجتمعاتنا، التي ننتقل معها من مجزرة الى أخرى في هذه البلاد او تلك.
لم يعد الخيار بين انظمة مركزية نقترحها كحلول للأزمات المتلاحقة في دولنا، أكانت مقترحات دينية ام علمانية ام ما بين(نظام الطائفية السياسية مثلاً). كما انه لم يعد الخيار حتى بين الدولة المركزية والدولة الفدرالية، بل أصبح بشكل لا لبس فيه، بين التقسيم والفدرالية، الا بالنسبة للذين يستمرون بالمتمسك بأفكار وتحليلات، لا ترد على بال “الشعب الواحد” ولا تقنعه، هو الذي يتكلمون بإسمه وعنه. وكأنهم لا يبالون بإنهيار بلدانهم بل يخافون على إنهيار تماسكهم النفسي الهش الذي أمّنته لهم الايديولوجيات التي تربوا عليها.
فالصراعات الإهلية، الطائفية والمذهبية والاتنية (بأشكالها الدموية والفكرية والنفسية)، والصراعات الاقليمية (خاصة الإسرائيلية والتركية والايرانية)، والهيمنة الاميركية شبه المطلقة مع حضور فرنسي خجول، جميعها عوامل باتت تدفع بقوة نحو خيارين لا ثالث لهما أمام شعوب المشرق العربي وخاصة في سوريا، ولبنان والعراق وربما في الاردن. والخياران هما: التقسيم على اسس مذهبية او طائفية او اتنية، او الفدرالية على الأسس نفسها، مع بعض التعديلات التي قد تقتضيها الجغرافيا المحلية.
على الارجح ان القوى الدولية والاقليمية تفضّل التقسيم لأنها بذلك تحفظ لنفسها نفوذاً مباشراً على بعض المناطق المقسّمة، فالتقسيم يسبقه عادة حمايات دولية او اقليمية بدأت تتكرر المطالبة بها. وربما أيضاً لأن التقسيم يحافظ على احتمال استمرار الصراع الدموي بين المناطق المقسّمة، لصالح القوى الدولية والإقليمية.
لا مصلحة لشعوب المنطقة بالتقسيم بل بالفدرالية لسببين رئيسيين:
اولاً، لإن الخيار المركزي أصبح مكلفاً جداً وجودياً على حياة الشعوب، وبالمقابل لا وجود فعلي لقوى محلية تحمل لواء الوطنية بوجه الصراعات الأهلية والهيمنة الخارجية على حد سواء، بعد سقوط شعارات “الشعب الواحد” و”العروبة” و”القومية السورية” و”العلمانية” و”الديمقراطية” و”الاشتراكية”.
ثانياً، لإن الفدرالية تحيّد ثلاثة عوامل تتسبب عادة بالصراعات الأهلية وتؤدي الى التقسيم: الأمن والمال والعلاقات الخارجية، وتحافظ من حيث المبدأ على علاقات سلام وتفاعل اقتصادي واجتماعي وسياسي بين المجموعات المحلية. الفدرالية تحتاج بالطبع الى توافق اقليمي- دولي، لكنها تؤمّنه بالحياد وبأقل قدر ممكن من التبعية لطرف معيّن او لعدة أطراف. وهي بذلك الرد الأفضل في آن واحد على تعاظم الصراعات الأهلية وعلى تزايد التبعية المطلقة للاطراف الخارجية.
في لبنان يبدأ مسار الحفاظ على السلم الاهلي بإقرار قانونَي مجلس الشيوخ واللامركزية الإدارية الموسّعة بأسرع وقت ممكن ودون انتظار للتطورات السورية المتسارعة وعدواها التي بدأت تظهر. هذا لا يعني أن يترافق ذلك، كما أراد إتفاق الطائف، مع السعي لإلغاء الطائفية السياسية، فنحن نختبر حالياً الرعب من الانتخابات البلدية في بيروت التي قد تهمّش بشكل كبير التمثيل المسيحي، فنسمع الصراخ يعلو من أجل المحافظة على المناصفة بوجه الاتجاهات الطائفية الطاغية بين المواطنين. فماذا نتوقع ان يحصل اذا طبقنا إلغاء الطائفية السياسية على مستوى لبنان في الانتخابات النيابية؟
مجلس الشيوخ واللامركزية الادارية الموسّعة تمتصان جزءاً من التجاذبات المذهبية والطائفية واعتقد ان ذلك يساعد أيضا على مقاربة معضلة “حزب الله” وسلاحه، وهي المعضلة الوطنية الأساسية في هذه المرحلة من إعادة بناء الدولة. فما زلت عند رأيي الذي عبّرت عنه منذ أكثر من شهرين في مقال في “النهار”، وهو ان “حزب الله” يفضّل الحل الفدرالي لأنه لم يعد يستطيع لا الهيمنة على الدولة ولا الإنخراط فيها بشكلها الحالي، بحكم تنظيمه الديني – العسكري الذي لم يناسبه في السابق الا التقسيم عبر انشاء دويلته المستقلة عن الدولة اللبنانية، هذا التنظيم الذي يستحيل ان يندمج في نظام سياسي مركزي تعددي وديمقراطي. “ديننا عين سياستنا” كان يقول لنا الخميني.
الاتجاهات في البيئتين المسيحية والدرزية ترحبان ضمنياً بالفدرالية، الا اذا كانت التطورات الحالية قد أعادت ثقة القوى المسيحية النافذة بالدولة المركزية، مع اعتقادها ربما انه يمكنها ان تستخدم فائض القوة الخارجي لصالحها.
الاهم في الإطار الاقليمي، هو موقف القوى السياسية السنية، بعد هيمنة التنظيمات السنية المتطرفة على الحكم في سوريا. لقد شكل الاعتدال السني في لبنان، من خلال تيار الحريري اساساً، مدعّماً اليوم بتيار نواب التغيير داخل البيئة السنية، الضمانة الاولى لغلبة الاعتدال داخل هذه البيئة. يُعتمد عليها اليوم، هي التي قد لا تناسبها الفدرالية بسبب توزعها الجغرافي، في تسهيل تأمين استقلالية الواقع اللبناني عن التطرف السني السوري، والمساعدة في الآن نفسه على إيجاد صيغة لامركزية تؤمن التعايش السلمي بين الجماعات اللبنانية المتناحرة تاريخياً. وجود رئيس حكومة سني مثل نوّاف سلام، المعروف بالاعتدال والانفتاح، يضيف عاملاً مركزياً إيجابياً في هذا الاتجاه السياسي اللامركزي.
مع ذلك أخشى الا نحسن الإختيار، نحن وجيراننا في المشرق العربي، بسبب الضغوطات الخارجية بالدرجة الاولى، وضعف الإرادة الوطنية بالدرجة الثانية وتنكّر الجماعات المختلفة للكراهية فيما بينها بالدرجة الثالثة.
أخشى كذلك أن نندم بعد عقود، على عدم سعينا الجدي لتكوين دول فدرالية قابلة للحياة، كما ندمنا بعد عقود أيضاً على عدم قبولنا بقرار الامم المتحدة بتقسيم فلسطين سنة ١٩٤٨.
كنت اتمنى ان يكون رأيي مختلفاً، انا العلماني الذي يطمح الى دولة ديمقراطية علمانية تحقق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية بين الطبقات الاجتماعية. لكن ما أرى واسمع وإقرأ، وما يُستشرف من تطورات، يحتّم عليّ ان افكّر وان اقول بصدق، بعد كل التجارب التي مررنا بها ولا نزال، ما اعتقد انه، وقبل اي شيء آخر، يختصر عدد المجازر ويقنّن من سيل الدماء.