أبعد من الفراغ الرئاسي و انتخاب رئيس جديد !

بقلم زكي طه

من الواضح أن البحث في اسم الرئيس لا يقدم ولا يؤخر في انجاز الاستحقاق الرئاسي. ولا تختلف عنه جلسات المجلس النيابي أو عددها، وما يقع في امتدادها من سجالات واجتهادات دستورية، حول نصاب انعقادها ودورات الاقتراع ولعبة تعطيلها، ثم الدعوة إلى جلسات أخرى، يعرف الجميع مسبقاً أنها تكرار لسابقاتها، وإن اختلفت بعض تفاصيلها. وبصرف النظر عن مسلسل الجلسات، وتعداد مواصفات الرئيس المطلوب أو المقبول من هذا الطرف أو ذاك. وبعيداً عن اتهامات التخوين التي يطعن بمصداقيتها ولاءات مطلقيها للخارج والارتهان له. وكذلك مواقف الاستهجان الصادرة عن المرجعيات الدينية من مواقعها الطائفية. فلا شيء يوحي راهناً أن رئيساً للجمهورية سيُنتخب في المدى المنظور.

لأن مأزق الفراغ الرئاسي لا صله له بانعقاد جلسات المجلس النيابي من عدمه، أو بأداء رئيسه الذي يتقن جيداً إدارة تمرير الوقت، وملء الفراغ الدستوري بشكليات دعوة النواب لتكرار أدوارهم في مسرحية معركة رئاسية هزلية. ولا بفشله في تنظيم حوار للتوافق على اسم الرئيس بين كتل نواب الأحزاب والتيارات الطائفية، التي تمثل أكثرية المجلس النيابي، والتي بإمكانها اختزال دوره ومصادرة قراره إذا توافقت، وتعطيله إن اختلفت. وهي التي تشكل منظومة السلطة، وقوى المحاصصة الطائفية والفئوية المتصارعة، حول إدارة البلد وهويته ومصالحه وموقعه الإقليمي، وشؤون الحكم فيه من أجل ضمان أدوارها وحصصها ومصالحها الخاصة.

وبما أن معضلة عدم انتخاب رئيس للبلد تكمن في الانقسام السياسي بين تيارات وأحزاب السلطة، وعدم وجود إرادة لديها للقيام بذلك. والسبب في ذلك، أن أياً منها في ظل اصطفافاتها الحالية، لا يملك القدرة على إيصال مرشحه إلى سُدة الرئاسة. ولأن طرفي منظومة السلطة المنقسمة على ذاتها ليسا في وارد تبادل التنازلات لمصلحة البلد. ومن هم خارج اصطفافاتها ليسوا في وارد الالتحاق باي من الفريقين، قد جعل اتفاق اطراف الداخل على تمرير انتخاب رئيس للجمهورية استعصاء امام حائط مسدود.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، بقدر ما هو متصل أيضاً بالنزاعات ضمن الفريق الواحد حول اسم الرئيس، وما يشكله من ضمانة أو تحدٍ لهذه الجهة أو تلك. هكذا هو الامر بالنسبة لقيادة حزب الله التي لا تبدو في عجلة من أمرها لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. خاصة بعد خسارتها للأكثرية النيابية التي تمكنها من فرض الرئيس الذي تريد. وبعد الإطاحة بما كانت تراهن عليه لتكريس موقع الحزب ودوره مقابل تمريرها اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع العدو “الإسرائيلي”، والتسليم الكامل بالدور الأميركي في لبنان.

وما يغطي انتظاريتها لما ستؤول إليه الأوضاع الداخلية المتفجرة في ايران وما يقع في امتدادها اقليمياً. أنها تستظل الخلاف المستعر بين حليفيها المرشحين للرئاسة وتغطيته بالورقة البيضاء. ولذلك ترفض قيادة الحزب لغاية الآن التخلي عن سليمان فرنجية الذي ترى فيه ضمانة لدوره وسلاحه، وهو الذي يحظى بدعم وتأييد رئيس المجلس النيابي له. كذلك فإن الحزب ليس بوارد القطيعة مع رئيس التيار الحر الذي لم يفقد الأمل من إمكانية وصوله إلى سُدة الرئاسة باعتباره المرشح القوى. ولذلك يتزامن رفض جبران باسيل المطلق القبول بفرنجيه، مع الرهان على لعبة الوقت وانتظار المتغيرات، وتكرار محاولات تسويق القبول به سواء في فرنسا، أو لدى اميركا وايران عبر الوسيط القطري، بأمل الاستفادة من تباين مواقف وسياسات الأطراف الإقليمية والدولية أو تناقضاتها حول الشأن اللبناني.

في المقابل لا تبدو أوضاع فريق السلطة المعترض على حزب الله أفضل حالاً. لأن التوافق شكلاً على تكرار الاقتراع للنائب ميشال معوض، لا يعكس تحالفاً قائما ً بين مكونات هذا الفريق، بقدر ما يشكل ذلك مخرجاً مؤقتاً لها، للإبقاء على الحد الأدنى من القدرة على تنظيم الخلاف مع الفريق الآخر، وعدم تمكينه من إيصال مرشحه. ولذلك يحاول هذا الفريق التحصن بالتصويت لمصلحة معوض، بانتظار ما ستسفر عنه الاتصالات بين اميركا وفرنسا والسعودية، بشأن الوضع اللبناني، الذي لا يقع راهنا في جدول أولويات اهتماماتها الدولية والإقليمية. خلافاً للملف الإيراني الحاشد بالأزمات سواء الداخلية منها، أو المتعلقة بالاتفاق النووي ومراقبة تخصيب اليورانيوم، وإنتاج الصواريخ والمسيرات وبيعها لروسيا، عدا دوره الإقليمي بما فيه لبنان. وآخر تجلياته ما صرح به ولي فقيه النظام علي خامنئي، بإن دور ايران في الصومال واليمن والعراق ولبنان، هو الذي أفشل المخططات والمؤامرات الأميركية. وقد فاته أن دور النظام الايراني التفكيكي لبُنى كيانات دول المنطقة ومجتمعاتها على أسس مذهبية، لم يساهم في إضعافها وادخالها في أتون حروب أهلية مفتوحة على كل اشكال التدخلات الخارجية وحسب، بل شكل الخدمة الأهم للدور والنفوذ الأميركي و “الإسرائيلي” في المنطقة على حساب وحدة شعوبها ومصالح بلدانها الوطنية في آن.

وفي موازاة ما جرت الإشارة له، فإن ارتباك وتفكك من هم خارج اصطفافات قوى السلطة من النواب يشكل افضل خدمة لها. وبغض النظر عن التسميات التي تطلق عليهم، فإن عجزهم وعدم قدرتهم على التلاقي والتوافق حول الحد الأدنى الناظم لدورهم في معركة الاستحقاق الرئاسي، يشكل طعنا بقدرتهم على تحمل المسؤولية الوطنية. كما يحول أيضاً دون مساهمتهم في بلورة خيار انقاذي للبلد وللاستحقاق الرئاسي في آن، على نحو يصون ما تبقى من المصلحة الوطنية اللبنانية بعيداً عن الارتهان للخارج، ويساعد على تأطير حالة ديمقراطية شعبية ضاغطة في مواجهة التعطيل المتعمد من قبل قوى السلطة، ووضع حد لاستطالة الفراغ الرئاسي، والإبقاء على حكومة تصريف الاعمال العاجزة عن التعامل مع المضاعفات الكارثية لشلل مؤسسات الدولة وقطاعاتها وأجهزتها، والمفاعيل التدميرية للانهيار الاقتصادي والمالي والتفكك الاجتماعي.

وامام الترابط القائم بين عوامل الانقسام الداخلي، وما يقع في امتدادها من خلافات تستمد مشروعيتها من التشكيلات الحزبية الطائفية، وما تعبر عنه من مصالح وطموحات فئوية أهلية ومحلية. ما يجعلها تبدو وكأنها امتداد للخارج أو أدوات تابعة تدور في فلك سياسات ومصالح، ونزاعات اطرافه الدولية والإقليمية على السواء. فإن أوضاع البلد وأزماته المفتوحة واستحقاقاته بما فيها رئاسة الجمهورية ستبقى تدور في حلقة مقفلة، لأن إمكانية الفصل بين عواملها الداخلية والخارجية، تكاد أن تكون مستحيلة.

وما يؤكد خطورة استمرار الفراغ الرئاسي والحكومي في آن، أنهما يشكلان أهم نتائج البحث عن ضمانات فئوية، خارج اطار الدولة الوطنية، لهذا الطرف أو ذاك سواء في الداخل أو الخارج. وخير دليل على انتحارية هذا الخيار، نتائج عهد ميشال عون. بدءاً من انهيار تيار المستقبل وتشرذمه وخروج رئيسه من السياسة بعد النهاية البائسة لدور بطل التسوية الرئاسية. أما التيار العوني فقد ارتد من وهم استعادة حقوق المسيحيين والاستفراد بها، إلى البحث عن ضمانات استمراره طرفاً في السلطة.

ولا يختلف عنه حزب القوات اللبنانية الذي عاد خائباً للبحث عن موقعه في السلطة بعد انقلاب التيار الحر على اتفاق معراب، وتبديد وهم شراكته في تقاسم تمثيل الطائفة معه. أما حزب الله الذي سوّق سلاحه حامياً للبلد وضمانة لحقوقه، فإذا به مع نهاية العهد الذي أتى به وانهيار البلد والدولة والاقتصاد، يرتد إلى خوض معركة الرئاسة باحثاً عن مرشح رئاسي ضامن لسلاحه ولدوره.

وإذا كان أداء سائر اطراف السلطة يقع في اطار محاولاتها لتجاوز مآزقها الفئوية. فإن أداء قوى المعارضة والنواب المستقلين، لا يعكس قدراً من المسؤولية والجدية بحثاً عن مخارج للبلد من أزماته في ظل المأزق الراهن المتمادي فصولاً. وإذا كان انهاء الفراغ الرئاسي وانتخاب رئيس يبقى مدخلاً لا بد منه، إلا أن مأزق البلد هو أكبر وأعمق من ذلك، لأنه يتعلق بقدرة اللبنانيين على إنقاذه من الخراب، والخروج من أسر انقساماتهم المدمرة نحو بناء وطن لهم ولأبنائهم.

اخترنا لك