الروح السياسيّة تحيا من جديد

بقلم د. ميشال الشمّاعي

@DrMichelCHAMMAI

لا يمكن لأي عاقل أن ينكر كيف نجح حزب “القوّات اللبنانيّة” بتغيير النمطيّة الحزبيّة من القتاليّة إلى السياسيّة. كما لم يعد بإمكان أحد إنكار فضل هذا الفريق السياسي في تغيير السلوك السياسي الجماعي للمجموعة الحضاريّة التي ينبثق منها أوّلًا، وأعني هنا المجموعة المسيحيّة، فضلا عن هذا الوهج التغييري الذي طالت إشعاعاته الإيجابيّة مختلف المجموعات الحضاريّة التي تكوّن الفسيفساء اللبنانيّة.

يقدم Jacques Ellul جاك إلول1912 – 1994 في كتابه الدعاية: تشكيل مواقف الرجال تحليلاً؛ Propaganda: The Formation of Men’s Attitudes الصادر في العام 1952 لكيفية استخدام الدعاية لتوجيه السلوك السياسي، إذ يشير إلول إلى أنّ الدعاية تهدف إلى تكييف الأفراد مع المجتمع وجعلهم يخدمون أهدافه من خلال التأثير في مواقفهم وسلوكهم.

وهذا ما نجح به الفريق الذي قرّر كسر المقاطعة المسيحيّة التي أعلنتها بكركي في انتخابات العام 1992. ولعلّ حسن نيّة بكركي دفعها في تلك المرحلة إلى الاعتقاد بأنّ المسيحيّين لن يكون فيهم يوضاسيّون لكثرة الاضطهاد أوّلًا، وللرّؤيا الثاقبة التي من المفترض أن يمدّهم بها لاهوتهم المسيحي في ناسوتهم اللبناني. لكن للأسف سرعان ما لمست بكركي وقتذاك مدى لهف بعض المسيحيّين إلى حالة التكييف ليصبحوا خدّامًا لسلطة الوصايا على حساب المصلحة الوطنيّة.

إلى أن عاد ذلك الجنرال المتمرّد من منفاه الباريسي مستخدمًا بلاغته الخطابيّة التي استمدّها من حياته العسكريّة، ليعود ويخطف ما تبقى من فكر حرّ عند بعض المسيحيّين. وهذا ما عرّف عنه كينيث بيرك (Kenneth Burke) 1897 -1993 في كتابه بلاغة الدوافع : A Rhetoric of Motives: 1950 البلاغة بأنها “استخدام الكلمات من قبل البشر لتشكيل المواقف أو تحفيز الأفعال في بشر آخرين”، حيث يشير إلى أن البلاغة تُستخدم لتغيير المواقف والسلوكيات السياسية من خلال الإقناع والتأثير الرمزي.

لكن بالطبع ما تمّ العمل عليه في تلك المرحلة، أعني من العام 2005 وحتّى العام 2018، هو ذلك التأثير الرّمزي الذي استمدّته هذه الجماعات إن من فكرة البذّة العسكريّة ورهبتها وهيبتها، وإن من فعل المقاومة السامي الاحترام. فحرّكت العواطف والمشاعر والمعتقدات تاريخ تلك المرحلة؛ فيما بقي العمل العقليّ معطَّلًا، إمّا بالترغيب وإمّا بالترهيب.

وهذا ما تحدّث عنه غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) 1841 -1931 في كتابه “روح السياسة” 1910، إذ اعتبر أن المشاعر والمعتقداتالجماعية هي المحرك الأساسي للسلوك السياسي، وليس العقل أو المعرفة وحدهما بقوله: “العقل يخلق العلم، والمشاعر والمعتقدات تقود التاريخ”. وما أبرزه لوبون في كتابه هذا كيف تتشكل الروح السياسية للجماعات وتؤثر في قراراتها السياسية.

هذه الرّوح السياسيّة بالذات سقطت في التجارب. وقضت على نفسها بنفسها. وهذا ما أدّى إلى ولادة الروح الجديدة المنبثقة من فكر ووجدان القضيّة اللبنانيّة محاكاة للواقع الاجتماعي الذي تنبثق منه الهويّة السياسيّة الجماعيّة. لكن إشكاليّة هذه الهويّة هي تلك العمليّة التشذيبيّة الصقليّة الانصهاريّة التي لطالما اتحفنا فيها، وترعرعنا على نغماتها.

لكنّ هذا التغيير تحقّق في بلورة رأي عام جديد بدأ يستوعب الفكر الذي يبدأ من اللامركزي وقد لا ينتهي حتّى بالفدرالي. وذلك كلّه محاكاة للواقع المجتمعي الذي نعيشه، والذي حرمنا الاحتلال السوري من تطبيق حدّه الأدنى المنصوص عليه في اتّفاق الطائف والوفاق الوطني. وهذا ما تحدّث عنه المفكّر مارك بيفير 1963 – (Mark Bevir) في كتابه مفهوم “الحكم اللامركزي”، Democratic Governance الصادر في العام (2003) حيث يرى أنّ الأفراد يغيرون سلوكهم السياسي استجابةً للتحديات أو “المعضلات” التي تواجههم، مما يؤدي إلى تعديل التقاليد السياسية القائمة.

ويقيننا أنّ هذا ما سيدفع بعد مرحلة هذه الانتخابات البلديّة والاختياريّة التي نخوض غمارها في هذا الشهر، إلى طرح جدّيٍّ للبدء بتطبيق اللامركزيّة الموسّعة من الادارة إلى السياسة فالتنظيم. وهذا ما يفسّر العمل الدؤوب الذي يخوضه حزب “القوّات اللبنانيّة” للفوز في اتّحادات البلديّات، ولو من خلال تحالفات لن تُدرَكَ خفايا مضامينها إلّا بعد استثمار نتائج اللامركزيّة وهي في براعمها الأولى.

يبقى أنّ الأحلاف السياسيّة المبدئيّة لن تُمَسَّ لأنّها مبنيّة على صخر وليست محفورة في رمال متحرّكة. فبنهاية المطاف، لن نصل إلى أيّ حلّ إلّأ من خلال فهم الهويّة المجتمعيّة اللبنانيّة القائمة على الوحدة في التعدّديّة والتنوّع في هذه الوحدة. وكلّ نظام اجتماعي أو سياسيّ أو حتّى فكري لا يستجيب مع هذه الوقائع ينسف حقيقة وجود هذا الوطن الذي يبقى وطن الرسالة، الذي بات بحاجة إلى إعادة قراءة هادئة لتنظيمه السياسي، انطلاقًا من قاعدته المجتمعيّة. فهل سيجد تكتّل الجمهوريّة القويّة اليوم من سيواكبه بعد نوّار؛ حيث لم يجرؤ آخرون على ذلك في الماضي القريب والبعيد، قبل أن يطلع النّور؟

اخترنا لك