الشيخ محمد البقاعي يكشف عن معالم العمل الإسلامي في البرازيل…

حضورٌ متجذّر وهويةٌ متجددة

كتب د. عبد العزيز طارقجي

في قلب أمريكا اللاتينية، حيث تتقاطع الثقافات وتتنوع الأديان، ينبثق صوت إسلامي معتدل ومُلهم، يُجسّده بحكمة وعزم فضيلة الشيخ محمد البقاعي. من مدينة ساو باولو، حيث يقيم منذ أكثر من 17 عامًا، كان لفضيلته دورٌ ريادي في بناء جسور الحوار وتعزيز حضور الجالية الإسلامية في البرازيل.

في هذا اللقاء الخاص الذي يُجريه موقع “الأرجنتين بالعربي” ضمن سلسلة الزيارات الميدانية، نسلّط الضوء على أحد أبرز رموز العمل الدعوي والإسلامي في البرازيل، نستكشف معه معالم التجربة، تحدياتها، وأبعاد التعايش بين المسلمين والمجتمع البرازيلي، في مشهد يجمع بين الحفاظ على الهوية والانفتاح على الآخر.

بدايات الدعوة الإسلامية: من الشام إلى ساو باولو

يقول الشيخ البقاعي: “دعيت إلى البرازيل عام 2007 بسبب النقص الحاد في الكوادر الشرعية المتخصصة، حيث لا توجد جامعات إسلامية محلية تُخرّج علماء في الشريعة. ومنذ ذلك الوقت، أعمل في مسجد البرازيل بمدينة ساو باولو، حيث بدأ مشوار طويل من الدعوة، التوعية، وخدمة الجالية.”

يقع مسجد البرازيل تحت إشراف “الجمعية الخيرية الإسلامية”، أقدم مؤسسة إسلامية في أمريكا الجنوبية، التي تأسست عام 1929. وُلدت هذه الجمعية من رحم مبادرة فلسطينية-سورية، قبل أن تتطور لتصبح مركزًا إسلاميًا بارزًا. وأشار الشيخ إلى أن الجالية اللبنانية لعبت دورًا محوريًا في إدارة هذا الصرح عبر عقود، مع إبراز دور الإدارة الحالية بقيادة الحاج ناصر فارس، التي أحدثت نقلة نوعية عبر ترميم المسجد وتجديد المدرسة وتوسيع المقبرة الإسلامية.

يخصّ الشيخ بالذكر الشيخ عبد الله عبد الشكور، الذي كان له الأثر الكبير في تأسيس المدرسة الإسلامية وبناء المقبرة الإسلامية، موضحًا أن هذه البنية المتكاملة التي تشمل المسجد والمدرسة والمقبرة تشكّل قلب الحضور الإسلامي في ساو باولو.

واقع الجالية الإسلامية في البرازيل: قوة في الأفراد وتحديات في التنظيم

رغم الانتشار الواسع للمسلمين في ساو باولو ووجود نحو 20 مسجدًا في الولاية، يشير الشيخ إلى أن الجالية لا تزال بحاجة إلى مأسسة العمل الإسلامي وتوحيد مرجعيتها، مؤكدًا أن “لدينا أفرادًا ناجحين، لكن ينقصنا الكيان المؤسسي الجامع.”

من توثيق الزواج والطلاق، إلى تعليم اللغة العربية وتنظيم لقاءات شبابية ودينية، يقدّم المركز الإسلامي خدمات واسعة للجالية، ويفتخر الشيخ بأن المدرسة الإسلامية تضم حوالي 400 طالب، وتُعد اللغة العربية فيها مادة أساسية.

اعتناق الإسلام، قصص يومية وتحديات متواصلة

يشهد المركز دخول مسلمين جدد كل يوم جمعة تقريبًا، ما يعكس الإقبال المتزايد على الإسلام في البرازيل. غير أن غياب البيئة الداعمة للمسلمين الجدد يشكّل تحديًا حقيقيًا، يتطلب جهدًا جماعيًا لاستيعابهم وتوجيههم.

يرى الشيخ أن العلاقة مع الإعلام البرازيلي عمومًا إيجابية، رغم أن بعض الأحداث الدولية، خصوصًا تلك المرتبطة بفلسطين المحتلة، تكشف عن تحيّز إعلامي لصالح الكيان الغاصب. أما على الصعيد المحلي، فيُسجَّل تقدّم ملحوظ في تقبّل المجتمع البرازيلي المتعدد للوجود الإسلامي، دون عنصرية تُذكر.

منتدى الأديان ومكافحة التعصب

يشارك المركز بفعالية في “منتدى الأديان” التابع لوزارة العدل البرازيلية، والذي يجمع ممثلين عن 26 ديانة مختلفة. ويؤكد الشيخ أن قانون مكافحة التعصب الديني الصادر في ساو باولو يعزّز ثقافة السلام ويضمن حماية المعتقدات، ما يشكّل مظلّة قانونية للعمل الدعوي المشروع.

منذ 2013، فتح مسجد البرازيل أبوابه أمام اللاجئين، بالتعاون مع السلطات الرسمية. قدم المركز الغذاء، المأوى، الدعم القانوني والطبي، وساعد في الاندماج الاجتماعي، مشكّلًا أنموذجًا إنسانيًا يُحتذى به.

يرى الشيخ البقاعي أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين العرب في البرازيل نموذجية وتقوم على الاحترام المتبادل والمشاركة في المناسبات الاجتماعية، ما يعزز بيئة سلمية متآلفة.

فلسطين، موقف مبدئي لا حياد فيه

بخصوص العدوان على غزة، قال الشيخ: “موقفنا ثابت مع الحق وأهله، بغض النظر عن الدين. وجدنا تعاطفًا شعبيًا ورسميًا كبيرًا، لا سيما من الرئيس البرازيلي الذي واجه ضغوطًا لكنه عبّر عن موقف إنساني أصيل.”

وفي ختام اللقاء، وجّه الشيخ محمد البقاعي رسالة إلى مسلمي أمريكا اللاتينية : “تعلموا لغة مجتمعاتكم واندمجوا بإيجابية، دون أن تتنازلوا عن دينكم وثقافتكم. نحن دعاة خير، لا دعاة عزلة. المواطن الصالح هو مَن يخدم بلاده ويعتز بجذوره في آنٍ واحد.”

يتضح لنا أن العمل الإسلامي في البرازيل لم يكن مجرد نشاط تقليدي، بل مشروع نهضوي متكامل يرتكز على الإيمان، والتفاعل الإيجابي، والانفتاح الواعي.

لقد عكس فضيلة الشيخ تجربة غنية تُظهر كيف يمكن للجالية المسلمة أن تكون عنصرًا فاعلًا في محيطها، تُسهم في نشر القيم وتعزيز التعايش، دون التفريط بالهوية.

من خلال هذا الحوار، يُثبت الإسلام في البرازيل حضوره الواعد، ويُسجّل صوتًا نقيًا وسط ضجيج العالم، يحمل رسالة السلام، والوحدة، والتكامل الحضاري.

ونحن في موقع “الأرجنتين بالعربي” نُعاهد الجاليات الإسلامية على مواصلة تسليط الضوء على النماذج المُضيئة، ودعم مسيرة الوعي والاندماج البنّاء في سائر دول أمريكا اللاتينية.

اخترنا لك