تطهير هيكل “الخارجية” من تجار “المصادقات”

تمييز بين الميسور والكادح في تقاضي الرشاوى

بقلم طوني عطية

صدّق أو لا تُصدّق. الصور المرفقة بهذا التحقيق تظهر المكان الذي كان يدار فيه أحد أقسام وزارة الخارجية لعقود طويلة. فساد واهتراء في الأداء الإداري والبنية التحتية. وزراء تعاقبوا ولم يُخرِجوا من ستراتهم الدبلوماسية “الأنيقة” ما “يُبيّض” وجه لبنان، لا في المحافل الأممية ولا في الدوائر الخاضعة لسلطاتهم.

منذ تولّيه المسؤوليّة، يناضل وزير الخارجية والمغتربين يوسف رجّي، الآتي من مدرسة “لبنان أولاً”، بين جبهتين: الأولى، إعادة ترميم علاقات الجمهورية الدولية بما يتماشى مع توجّهات العهد السيادية، والثانية، تنظيف السراديب الداخلية لـلوزارة، انطلاقاً من قسم المصادقات، الذي لا يقلّ تلوّثه وبشاعته عن مربّعات العفن الإداري الذائعة الصيت.

لذا، لا يُنصَح بمشاهدة الصور السابقة للمكاتب والمراحيض، حيث تشهد حالياً “نفضة” إصلاحية تنظيفية قلباً وقالباً، وكأن هذا المكان، كان خارج دوائر السلك الدبلوماسي اللبناني العريق، الذي يمثّل واجهة البلد ورِفْعَة المجتمع السياسي. أيُعقل أنه اعتمر طيلة الفترة الماضية “طاقية إخفاء” لحجب خفاياه عمّن تبوّأوا الوزارة من “إصلاحيين وتغييريين” و”ممانعين”؟ أكان تطهيره يستوجب متغيّرات إقليمية وسقوط أنظمة ومحاور ليأتي مسؤول واحد يرافقه ضميره ونزاهته وروحه القيادية، بدلاً من أصحاب السوء والسماسرة والفاسدين؟ إنه العجب.

أمام هذه الحال التعيسة، التي يدركها الوزير رجّي، استلّ سيف هيبته لمحاربتها منذ يومه الأول، عندما قال خلال مراسم التسليم والتسلّم، إنه “يعرف هذه الوزارة كلّها ومشاكلها والعاملين فيها واحداً واحداً”، لترجّ صدى كلماته أفعالاً.

في هذا السياق، كشفت مصادر خاصة لـ “نداء الوطن”، أنّ العملية الجراحية لاستئصال هذا الورم بدأت مع تسلّم الوزير مهامه، إذ تحرّكت مستشارته الدكتورة سعاد الرامي وأعدّت خطّة إنقاذية بناءً على معطيات دقيقة مرصودة من أرض الواقع وبعض الموظّفين، إضافة إلى ورود اتصالات من مواطنين يشكون “رعب” السماسرة والمتواطئين معهم داخليّاً. تجدر الإشارة هنا، إلى أن قسم المصادقات هو من أكثر الأقسام تفاعلاً مع المواطنين والأجانب الذين يريدون تصديق معاملاتهم أو شهاداتهم، بعد سلوك مسارها الإداري في الوزارات المعنية، وصولاً إلى الخارجية.

ولفتت المصادر إلى أنه خلال العهود السابقة، لم يُحاسب أي سمسارٍ. إذ ما إن تقوم القوى الأمنية بتوقيفه، حتى يُطلق سراحه، وتكرّرت عملية القبض والإخلاء تلك، حوالى 30 مرّة، والمفارقة أنّ الموظّفين لم يتقدّموا وقتها بشكوى رسمية ضدّهم. وتراوحت أسعار المعاملات بين 20 و300 دولار أميركي.

نعم، لبعض الفاسدين “رحمتهم” و”حكمتهم” و”عدالتهم”، كيف؟ إذا كان صاحب المعاملة من الكادحين و”المعتّرين”، فتتيسّر معاملته بـ 20$، أما إذا كان شكله يوحي بأنه من الميسورين أو من الخليجيين فـ “بياكل الضرب” بـ 300 دولار عدّاً ونقداً. وبعد القرارات الحاسمة التي اتخذها الوزير بطرد السماسرة من أمام “الهيكل”، لجأ هؤلاء إلى خطّة التفافية على قرار الوزارة، إذ أرسلوا أقاربهم ليصطفّوا أمام قسم المصادقات، مدّعين أنهم يريدون تخليص معاملاتهم، بهدف إحداث زحمة وبلبلة، للقول إنّ هذه الآلية المُستقيمة يترتّب عنها أعباء وظيفيّة، وإنّ دور السماسرة كان “خلاصيّاً” يخفّف من تلك الضغوطات، علماً أن القسم يستقبل بين ألف وألف و200 شخص من سوريين وعراقيين وغيرهم، في مساحة 100 متر، ويديرها 6 موظفين.

أيضاً، لم يسلم موظّفو “ليبان بوست” قبل عهد رجّي من قبضة السماسرة، إذ تعرّضوا لتهديدات من أجل تقييد عملهم. لذا، كان القرار الأول الذي اتخذه الوزير، بعد طرد السماسرة هو إعادة تفعيل آلية “ليبان بوست” عملاً بالاتفاق الموقع مع الوزارة عام 2017. وبات على المواطنين وأصحاب المعاملات التوجّه شخصيّاً أو الموكّل من قبلهم إلى مكاتب المؤسسة لتصديق المستندات بأسرع وقت، بكلفة 600 ألف ل.ل. فقط.

أمّا داخل القسم، ومن أجل قوننة المستندات والتخلّص من الفوضى السابقة، فشدّدت الإدارة على ضرورة حضور الأشخاص المعنيين مباشرة أو من ينوب عنهم بشكل رسمي وقانوني لا سيما للذين هم خارج البلاد.

المعضلة الأخرى، التي تمّت معالجتها، هي مكاتب الترجمة. إذ بحسب قوانين تنظيم مهنة المترجمين المحلّفين، لا يحقّ للعاملين فيها الدخول إلى الخارجية، لكن تسهيلاً لسير الأعمال، سُمح لتلك المكاتب بـ”كوتا” معيّنة، من أجل التوقيع على الأوراق المختومة أو المُترجمة فقط لا غير، وذلك يومي الثلثاء (10 معاملات) والخميس (15 معاملة).

هذا موجز عن الواقع الإداري قبل وبعد رجّي. أما في الجانب اللوجستي من تجهيزات مكتبية وفنيّة، فالصور لا تتكلم فقط، بل تئنّ وجعاً واشمئزازاً. تعجز المسشارة د. سعاد الرامي، عن وصف حالة المكاتب لدى تفقّدها عقب تسلّم مسؤولياتها. شيء لا يتحمّله أي عقل أو لسان.

مكاتب الموظفين مهترئة ولا تليق بجهودهم وعملهم، لا مكيّفات هواء شغّالة، ولا أجهزة كومبيوتر حديثة، أما حال المراحيض فحدّث ولا حرج، وأرشيف المعاملات والمستندات مرميّ كالنفايات في سردابٍ أوسخ من الحاويات. شيء يتخطّى الإدراك. أما اليوم، فتشرف المستشارة مباشرة على ورشة عملٍ كبيرة، تنفض غبار الفساد وترمّم مكاتب المصادقات، بغية الوصول إلى أعلى درجات الترشيد الإداري، وتسهيل أحوال المواطنين ومعاملاتهم بغية الوصول إلى صفر فساد وسمسرة، ليبقى السؤال الذي يطرح ذاته: ماذا لو لم يُعيّن يوسف رجّي وزيراً للخارجية والمغتربين؟

اخترنا لك