“البلاد” لـعقل العويط : سياسات الشعر

بقلم عباس بيضون – شاعر وروائي لبناني

لا نعرف لماذا نستبعد أن تتناول قصيدة النثر موضوعاً سياسياً، مع أن النثر أطوع وأكثر انفتاحاً وقابلية للقول. ثم إن شيخ شعراء النثر، محمد الماغوط، كان في شعره موغِلاً أحياناً في السياسة؛ ومبتكِرُ قصيدة أنسي الحاج لم يكن بعيداً عن السياسة. وبالطبع فإن مطوّلات أدونيس النثر- شعرية، والشعرية أيضاً، لم تكن هي الأخرى، في دعاواها ومبانيها، غريبة عن السياسة.

لا زلنا، مع ذلك، نستبعد السياسة عن قصيدة النثر، وإن بدا بوضوح أن ثمة دعوة لقصيدة النثر، وللقصيدة الحديثة كلها، ليست بأي حال غريبة عن السياسة. بل إن السياسة في صلبها وفي آفاقها، إذ إنها كانت بالتأكيد وراء كل الدعوات الحديثة. للقصيدة الحديثة شعاراتها وأقانيمها، التي تمتّ ــ من هنا وهناك ــ إلى ما يشبه السياسة. الرفض مثلاً دعوة هذه القصيدة و”لن” (لأنسي الحاج) واحدٌ من عناوينها، وفي هذا لسنا بعيدين عن السياسة، ولا عن النضال، ولا عن الدعوة.

هذه بطبيعة الحال سياسة على مستوى الشعر، بمفرداته ووجهاته، هي أيضاً سياسة ودعوة وتحريض. مع ذلك ما زلنا نتعجّب من أن نجد قصيدة نثر سياسية، ونشعر أننا هكذا نبتعد عن قصيدة النثر بما في ذلك استعدادها ووجهتها وأهليتها. إذا كانت السياسة ليست هكذا شُغلَ قصيدة النثر، إلّا في خفيتها، فإن المناسبة السياسية أبعدُ ما يكون عنها. قصيدة النثر ليست قصيدة مناسبة، وتقديمها لذلك خروجٌ عن استعدادها وملكاتها.

تترك اللغة التعليقية والسياسية المباشرة بعض المكان للغناء

هكذا قابلنا بنوع من التعجب كتاب “الرابع من آب” (2020) للشاعر والصحافي اللبناني عقل العويط (1952)، وسنقابل بالتعجّب نفسه نصّه الطويل “البلاد”، الصادر حديثاً عن دار “نوفل” البيروتية. لماذا؟ لأن النص الشعري الذي يكتبه عقل العويط، الذي دعته الأزمة اللبنانية إلى أن يزاول التعليق السياسي، يجد أن شعره ينبغي أن يحيد أيضاً إلى الوجهة نفسها. “الرابع من آب” عنوان، و”بلاد” أيضاً كذلك. “بلاد” هي بالطبع لبنان، وإذا شئنا أن نجد للنصّ عِبرة وأفقاً، فإننا نعثر عليهما فوراً في نهاية المقطع الأول: “هذه ليست بلادي، هذه ليست البلاد”.

هذه الخلاصة تستدعي دفاعاً عنها، واحتجاجاً لها، بما يكاد، في مقطع آخر، يبدو عريضةً كاملة، وما يشبه أن يكون لغة خالصة للكارثة، أو أرشيفاً لفظياً لها. “على بساط الريح ديدان وعيدان ثقاب ومراعٍ خصيبة الجماجم وحجار تعوي آلاماً، وحيطان تكاد تنتحر وسعال أحمق ولعاب خانق وبصاق أصفر الاصفرار ولمبة دامية في سحاق الضوء وتخرّصات وأحقاد وجبال تتدحرج”. ها نحن هكذا أمام لغة مصادرها القذارة والعنف والقسوة والألم، أي أننا أمام الفاجعة اللبنانية، التي هي سقوط انحداري، وانقلاب وانهيار صاعق.

ما يحدث هو هذا التشويه المتزايد، والقبح الذي يتفاقم، والواقع الذي يتردّى أكثر فأكثر. ليست هذه بعدُ بلاداً بل بؤرة وجحيماً. إذا كان الأمر كذلك، فهو لا بدّ أن يصل إلى اللغة، لا بدّ أن يقع على لغته، التي لن تكون أقلّ تشويهاً أو أقل كارثيةً. بل إن اللغة ستبدو، بمقدار مُقابِلِها الواقعي، عسراً ومعاضلةً وقسوة. اللغة ستكون هكذا أشبه بالتعنيف، أشبه بالحشرجة، أشبه بالاختناق. هكذا نجد أنفسنا في مطلع القصيدة أمام هذا السعال، وذلك النطق المتعسّر. نجد أننا أمام كلام مخنوق: “لن يجلس ملاك”، “لن بأي قنديل”، “عندما تتضرّج أشياؤهم بالثلوج ودماؤهم”، “ألياف فاسقة وجنس جماعي”.

هكذا نجد أنفسنا أمام لغة تحاول ألّا تفقد موازينها، ألّا تختل إلّا بالكاد؛ لغة تتحدّر من رؤى توراتية، أشعيا وأرميا وداوود، ومن شعر أسود مرضيّ ونبوئي وعاصف يتحدّر من ذلك، لنقع على ما يبدو هتافاً وتظاهرة: “المشانق، المشانق”. ولنصل بعد ذلك إلى لغة تعليقية، إلى نوع من سياسةٍ مباشرة:

“ذلك كله تحت سقف القانون
لأن الأحوال أحوال طوارئ”.

من ذلك سنصل إلى نوع من دعوة، إلى وطنية مهزومة ورثائية، إلى احتجاج ونقد واعتراض مباشر:

“هل من يميتني من أجل أن أنضمّ إلى موت البلاد
لن أبادلك يا لبنان بكرسيّ رئاسة في بعبدا”.

لكن ثمة غناء يبقى، غناء يضيء رغم العتمة، نشيد خلاص بعيد ورثائي:

“أنا أقيم
عهوداً بيننا ممهورة بقسم وتواقيع
بيننا شروش بحبّ الأرض
بيننا صداقات ثلوج وزمهرير
ستكونين محمية بثأري”.

اخترنا لك