ديمقراطيتنا المزعومة… بين الفوضى والبحث عن خلاص

بقلم خلود وتار قاسم

يتغنّى اللبنانيون بالحرية ويفتخرون بأنهم يعيشون في كنف نظام ديمقراطي، لكن الحقيقة المؤلمة هي أننا لا نعيش ديمقراطية حقيقية، لا من قريب ولا من بعيد. ما نحياه أقرب إلى فوضى مُقنّعة: تارةً منظّمة تكرّس الزبائنية والطائفية، وتارةً أخرى مشتتة تُعمّق الانقسام وتُغذّي الصراعات.

نُقيم تحت عناوين براقة وإيديولوجيات تُسوّق على أنها مدخل إلى الحداثة، لكنها في جوهرها تحوّلت إلى سيف مسلّط على رقاب المواطنين، تُستخدم لشرذمتنا لا لخدمتنا. وفي غياب مشروع وطني جامع، يصبح كل شعار مجرد غلاف هشّ لأزمات أعمق.

لسنا مجرد مجموعة أفراد اجتمعوا على أرض واحدة. لسنا – كما وصفنا زياد – “أرطة ناس مجمعين”. نحن شعب يحتاج إلى لحظة وعي وقرار شجاع. نحتاج إلى الاعتراف بأننا نعيش حالة ضياع متراكمة، وأن البقاء في هذا النفق لن يُنتج سوى مزيد من التآكل والتهالك. إذا أردنا أن نتقاسم هذه الأرض كأبناء وطن واحد، فعلينا أن نبدأ بتشييد جسر الخلاص من هذا الظلام، ونعيد تشكيل الهوية السياسية والاجتماعية للجيل القادم.

وقد يكون أحد مفاتيح هذا الخلاص هو إعادة الاعتبار لمفهوم التنشئة السياسية. لقد أولى المفكّرون والمصلحون عبر التاريخ أهمية كبرى لصناعة “المواطن السياسي”، من خلال التربية والتعليم ونقل التراث السياسي من جيل إلى جيل، باعتبارها وظيفة أساسية من وظائف الدولة. فبفضل التنشئة السياسية، يتكوّن الانسجام بين ثقافة المجتمع ومؤسساته، ويتبلور وعي المواطن بحقوقه وواجباته داخل الدولة.

قال جان جاك روسو: “الحرية لا تعني أن تفعل ما تشاء، بل أن تحيا وفق قوانين ساهمت في صنعها.”

فهل نحن فعلاً نعيش وفق قوانين صنعناها، أم أننا نخضع لتفاهمات فوقية، ومساومات تُفرض علينا وتُلبس بثوب الشرعية؟

رغم اختلاف الأنظمة السياسية، إلا أنها تتقاطع في إيمانها بأهمية التنشئة السياسية كأداة لضمان استمرارية النظام واستقراره. في أنظمة الحزب الواحد، على سبيل المثال، تُصبح التنشئة السياسية حجر الأساس لبناء “الإنسان النموذج” الذي يخدم مشروع السلطة، حيث يتدخل الحزب مباشرة في التعليم والإعلام، ويوجّه الشباب وفق رؤيته ويُقصي كل فكر مضاد.

أما نحن، فلا حزب موحّد، ولا مشروع وطني، ولا رؤية سياسية واضحة تُنقل عبر الأجيال. نحن نُربّي أولادنا على الشك، على الانتماء الفئوي، على الاحتكام للغريزة الطائفية، لا على مبدأ المواطنة والدولة. دستورنا الذي يُفترض أن يكون الضامن الجامع، بات أداة تُخرق وتُفسَّر حسب المزاج والمصلحة.

في تقرير هام لليونسكو ورد ما يلي: “لا يمكن قيام ديمقراطية بدون مواطنين ديمقراطيين، ولا وجود لمواطنين ديمقراطيين بدون تربية مدنية تُعزز قيم المشاركة والمسؤولية.”

وهذا هو بالضبط ما نفتقده. نحن لا نزرع في أطفالنا حس المواطنة، بل نزرع فيهم خوفًا من الآخر، وانحيازًا لفئويتهم، واشمئزازًا من السياسة كفعل عام.

من هنا، أطرح – وبكل صراحة – فكرة نحتاج أن نناقشها بهدوء: نحن بحاجة إلى نظام حكم واحد، يربّي الأجيال على حب الوطن الواحد غير المجزّأ، ويُقدّس الدستور كعقد وطني لا يُمسّ، لا بالمصلحة ولا بالمزاج. لسنا بحاجة لأنظمة هجينة تفتك بالمواطن وتمنحه حرية وهمية. نحن بحاجة إلى مشروع متكامل يعيد صناعة الإنسان اللبناني.

هذا رأيي، أضعه على الطاولة لا لفرضه، بل لدعوة الجميع إلى نقاش علمي، عقلاني، مسؤول. فإن كنتم تختلفون معي، فاختلافكم مرحّب به، شرط أن يحمل طرحًا موضوعيًا ومضمونًا يعالج جذور الأزمة لا سطحها.

اخترنا لك