عندما تصبح “الضرورة” تفاديًا للموت وليس ضماناً للحياة

بقلم غسان صليبي

 دعكم من مهزلة الصراع بين من يؤيّد انعقاد مجلس الوزراء ومن يعارضه تحت عنوان الحفاظ على  صلاحيات رئيس الجمهوريّة، فالطرفان يمنعان من خلال نوابهما انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، ولا يباليان به وبصلاحيّاته، الاّ بقدر ما يمكن استخدام هذه الصلاحيات في تأمين مصالحهم. 

دعكم أيضًا من كذبة الميثاقيّة، التي لا تعني بحسب وثيقة الميثاق الوطني تقاسم السلطة بين المسلمين والمسيحيين، بل الحياد تجاه الشرق والغرب في إطار استقلال الوطن، وهذا ما يفتقر اليه طرفا “الميثاقيّة” المزعومة.

فلنركّز على الأهم في الجدال القائم، وهو معنى “الضرورة” بالنسبة الى أطراف السلطة، التي توجب انعقاد أو عدم انعقاد مجلس الوزراء.

فهذه “الضرورة” كما طرحها ميقاتي ومؤيّدو انعقاد الجلسة، تجسدت أساساً في الحاجة إلى بت مسألة تمويل المستشفيات في ما يتعلّق  بمعالجة مرضى السرطان وغسيل الكلى، وتأمين الدواء لهم. 

أي ان “الضرورة”  كما هي مطروحة، هي الاّ يموت مجموعة من المواطنين، في حال تقاعس مجلس الوزراء عن الانعقاد واتخاذ القرارات اللازمة.  وهذا موقف أخلاقي، لا ينص عليه الدستور صراحة، بل يكتفي بالقول، في المادة 64 ان على الحكومة المستقيلة “تصريف الأعمال بمعناه الضيّق.

في المقابل تتبنى الديانتان الإسلاميّة والمسيحيّة هذا الموقف الأخلاقي، وأتباعهما هما طرفا النزاع الحالي حول انعقاد مجلس الوزراء. المسألة كثيرة الوضوح في الدين الإسلامي، ف”الضرورة” وردت في القرآن الكريم : “وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ،” وهي ما يحصل بعدمه الموت أو المرض أو العجز عن الواجبات، وهي من المصطلحات الشرعيّة التي يستخدمها الفقهاء والأُصوليون في الأحكام كقولهم : “الضرورات تبيح المحظورات”، والاضطرار والضرورة هما بمعنى واحد عند الفقهاء”.

مفهوم “الضرورة”، ليس بهذا الوضوح في الديانة المسيحيّة، وإن كان معناه أكثر جذريّة وشموليّة. فربما كان مفيدًا لأتباع المنادين بحقوق المسيحيين، وليس لزعمائهم بالتأكيد، تذكيرهم بأن يسوع كان يخالف الشريعة كلما اصطدمت بالحاجات الإنسانيّة.

فهو قال للفرّيسيين إن “الإنسان هو سيّد السبت”، عندما اعترضوا على شفائه المرضى ومساعدته المحتاجين يوم السبت، وهذا ما كانت تمنعه الشريعة اليهوديّة، التي كان لا يزال يعترف بها. وهو بذلك حسم العلاقة بين الاحتياجات البشريّة والقوانين، واضعًا الثانيّة في خدمة الأولى.

مفهوم “الضرورة” بالنسبة للسلطة، كما هو واضح، لا علاقة له بكيفيّة اتخاذ القرارات لتأمين مقوّمات الحياة لغير المرضى بالسرطان وغسيل الكلى، وهم الأكثريّة الساحقة من المواطنين. وهذا ما لا يمكن للدستور أن يتقبّله، فهو ليس باستطاعته ان ينظر إلى “الضرورة”  الاّ نظرةً أكثر شموليّة وديموقراطيّة، وتصبّ في أساس الحفاظ على دور الدولة تجاه جميع المواطنين وفي جميع الظروف.

هو الذي التزم في مقدمته شرعة حقوق الإنسان، والذي اعتمد مفهومًا للسلطة يعتبر أن  مصدرها هو الشعب.

لا أعتقد  انه يمكننا تفسير المادة ٦٤ من الدستور من خارج هذا المفهوم العام، والتي تقول بأن على الحكومة المستقيلة “تصريف الأعمال بمعناه الضيّق”، وإذا نصّ الدستور على عكس ذلك، في مكان آخر، كان متناقضًا مع نفسه مما يستوجب تعديله.

فمهما كانت التفسيرات، الدستور لا يعترف بالفراغ في السلطة، وهو عندما يتكلّم عن “تصريف أعمال بمعناه الضيّق”، ينظر إلى المسألة على أنها جد مؤقتة ولفترة قصيرة، مما لا يشكّل خطرًا على مصالح المواطنين. في حين أن تعطيل السلطة لفترات طويلة، يجعل من هذا “المعنى الضيّق”،  غير قابل للتطبيق، الاّ على جثث المواطنين وعلى مسمع من صراخ آلامهم وبؤسهم. 

المشكلة ليست دستورية بل قيميّة، عند سلطة تخرق الدستور كل يوم، وهي لم تعد تبالي بحياة شعبها الاّ إذا أصبح على سرير الموت. ليس حبًا به أو حرصًا على حياته، بل استغلالاً لمرضه وآلامه، إما لإعطاء الانطباع بأنها لم تتحول بعد إلى وحش يفترس شعبه، أو لخوض صراعاتها الداخليّة.

 اما الذين يرفضون انعقاد مجلس الوزراء لأي “ضرورة” كانت، بحجة الدفاع عن صلاحيات رئيس الجمهوريّة “المسيحي”، فلا أعتقد انه لا يزال من “الضرورة” مناقشتهم.

في نهاية الامر من العبث تعريف “الضرورة” في ظل حكم “الضرورة” بما معناه الإكراه، القائم على الظلم والعنف.

اخترنا لك