قديس الراب نفاقٌٌ ناعم باسم القضية

بقلم مكرم رباح

لطالما كان مهرجان الجامعة الأميركية في بيروت، المعروف بـ AUB Outdoors، مناسبة ربيعية بامتياز. إنه مهرجان يُنَظَّم في نهاية فصل الربيع على مدى يومين، ويتضمن ألعاباً، ومأكولات، وحفلات موسيقية، ويُنَظّمه طلاب الجامعة بهدف جَمع التبرعات لصندوق المِنَح الدراسية. هذا الحدث، الذي ترعرعنا على فكرته نحن وأبناء جيلنا، كان مناسبة لزيارة حرم الجامعة في الثمانينات وما تلاها، وفرصة “خفيفة ونظيفة” للتسلية، سواء للأطفال أو لطلاب الجامعة.

لكن مع مرور الزمن، تحوّل المهرجان إلى مناسبة تجارية، وبات الحصول على تذاكره يتطلب “واسطة”، فيما ارتفعت الأسعار لتصبح غير رمزية، ما أفقده شيئاً من روحه الأصلية.

في نسخته الأخيرة، التي نُظّمت خلال عطلة نهاية الأسبوع المُنصرم، استضاف المهرجان الفنان ومغني الراب الفلسطيني مروان عبد الحميد، المعروف بـ سانت ليفانت (قديس الشرق)، وهو فلسطيني من أب فلسطيني – صربي، وأم فلسطينية – فرنسية. من المفارقة أنني لم أسمع به من قبل، ربما لأنني لست من هواة الراب، وهو نوع فني يستهوي الأجيال الأصغر سِناً التي تعتبر “قدّيسها” الشاب صوتاً ناطقاً باسمها.

بطبيعة الحال، خرج عبد الحميد على الجمهور المُحتَشد ليغني لهم بعضاً من أعماله، لكنه سرعان ما تحوّل إلى “محاضر” في القومية العربية ومُهاجمٍ لما وصفه بـ “الطاغوت العالمي”، أي الولايات المتحدة الأميركية. في تسجيلات انتشرت على وسائل التواصل، ظهر عبد الحميد وهو يتحدث بمزيج من الإنكليزية والعربية منتقداً حرمانه، خلال دراسته في مدرسة الجالية الأميركية في غزة ثم عمّان، من تَعَلّم “تاريخنا”، كما قال، بما في ذلك تاريخ فلسطين، ولبنان، وسوريا.

واعتبر بدوره أن كثيرين من الحاضرين عاشوا التجربة التعليمية ذاتها، حيث كان الهدف المُعلن هو “الذهاب إلى أميركا”، ليُصرّح في ما بعد أنه يعتبرنا “نحن العرب، نحن بلاد الشام، ونحن مستقبل البشرية”، وأن الهجرة إلى الغرب “ليست شيئًا جميلاً، not nice”

ثم صَعِد على المسرح من جديد في وقت لاحق، وهو يُلَوّح بالكوفية الفلسطينية، ليحيّي الشهداء في غزة وسوريا والجزائر والسودان واليمن، باستثناء من لم تُسعفه ذاكرته أو انتقائيته على ذكرهم.

ويتجلّى هنا بالتحديد النفاق بأوضح صوره. فبينما يشجب النظام التعليمي الغربي الذي هو نفسه نتاجه لا بل أحد المستفيدين المباشرين منه، ها هو يُحرّض الشباب على البقاء في بلادهم. لقد اختار والداه إدخاله إلى مدرسة”ACS”، وهي مدرسة نخبوية تُدرّس المنهج الأميركي وتفرض أقساطاً باهظة؛ إنها خطوة مدروسة لا يَتَّبِعها سوى من يؤمن بأن “الخلاص” يَمر عبر التعليم الغربي. ثم ما لبث أن التحق بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، تاركًا خلفه جامعات العالم العربي، ومنها الجامعة الأميركية في بيروت، التي استخدم حرمها لاحقاً كمنصة لخطابه المزدوج.

فهل حقاً جاء ليُحرّض على الهجرة، أم جاء ليبيع رواية شعبوية مزيّفة ليرتفع رصيده الجماهيري؟ وهل كانت الكوفية الفلسطينية التي رَفَعها تعبيراً عن التزامه، أم مجرد إكسسوار مسرحي يُستخدم عند اللزوم؟

الفنان الشاب، البالغ من العمر 24 عاماً، هو رمز للنجاح في نظر عدد كبير من معجبيه، لكن من الضروري التوقّف عند كلام “القديس” عبد الحميد، وعدم التصفيق له كردّة فعل كما تصفها مدرسة بافلوف في علم النفس.

لعلّه من المناسب أن يطرح مروان على نفسه بعض الأسئلة: لماذا اختار والداه تسجيله في مدرسة ACS ولم يرسلاه إلى مدرسة كمال عدوان في غزة؟ لماذا لم يلتحق هو بالجامعة الأميركية في بيروت التي وفّرت له المنبر والاحتضان؟ هل القضية الفلسطينية باتت ماركة تسويقية يسهل تردادها على المسرح، ثم طيّها في حقيبة سفر فاخرة عند المغادرة؟

أسئلة مشروعة، تستحق الإجابة عليها، لا سيما أن الفنان الفلسطيني المناضل تقاضى مبلغاً خيالياً مقابل أدائه الترويجي للقومية العربية – في نسختها “الخفيفة”، ولم يتبرع بالأموال لتعليم الطلاب الفلسطينيين في الجامعة الأميركية.

ختامًا، يا bro، يا قديسنا الشاب: مئة وأربعون ألف وردة لكل من يؤمن بالإنسان وبالسلام الحقيقي، ذاك السلام الذي يحفظ كرامتنا أكثر من كلمات معسولة وأنغام ممتعة تخاطب الغرائز وتتراقص فوق دماء الشهداء.

اخترنا لك