بقلم عباس هدلا
بعد إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، باشرت مؤسسة “جهاد البناء” ضمن “مشروع الترميم والإعمار – 2024” أعمال المسح والتقييم للأضرار الناتجة عن “حرب الإسناد”، كما باشر “حزب الله” دفع التعويضات من خلال “شيكات” تصرف في فروع جمعية “القرض الحسن”، التي كان العديد من فروعها تعرض للتدمير بفعل الغارات الإسرائيلية خلال تلك الحرب، فمن هي تلك الجمعية التي تعتبر عصب الجسم المالي والنقدي لـجماعة “حزب الله” وبيئتها؟ وكيف وُجدت ونمت لتتحول إلى إطار موازٍ للجسم المالي والنقدي اللبناني؟
التطور التاريخي
منذ بداياته، أولى مشروع “تصدير الثورة الإسلامية في لبنان” المتمثل بـ “حزب الله” الجانب الاجتماعي والإنمائي والمالي أهمية كبيرة تكاد توازي العمل العسكري والأمني، فكان أن أطلق مطلع عام 1984 ما يعرف بـ “بيت مال المسلمين” الذي كان يقدم قروضاً من دون فوائد لأفراد “أمة حزب الله” وفق الشريعة الإسلاميَّة، وعزا في مقالة بعنوان “بيت مال المسلمين أفضل سبيل للقرض الحسن” في جريدة “العهد” عام 1988 السبب لإنشائه هو “حل المشكلات الاجتماعيَّة الكبيرة التي أفرزَها النظام الماروني في مناطقنا الإسلاميَّة وسعى كل جهده من خلالها لإبقائنا تائهين في دائرة التخلُّف والارتزاق والجهل”.
تنوعت القروض بين قروض للزواج والدراسة وقروض المهن والتسليفات، وارتفعت تلك القروض من 150 عام 1984 إلى 508 عام 1987، وفي 23 كانون الأول 1987 حازت جمعية “مؤسسة القرض الحسن” على علم وخبر رقم 217/ أ.د من وزير الداخلية عبد الله الراسي، وبحسب العلم والخبر كانت غاية الجمعية: “القيام بالأعمال الخيرية والإنسانية والاجتماعية، إنشاء المستوصفات والمستشفيات والمدارس، تأمين مراكز للدراسات العليا والبحوث، إنشاء دور للأيتام ومراكز تأهيل للمعاقين، إعطاء أو قروض مدرسية، وقروض دون فائدة”. فتحولت التسمية إلى “بيت مال المسلمين – مؤسسة القرض الحسن”.
بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، تفاعل عمل الجمعية ونما ووصلت تقديمات “مؤسسة القرض الحسن” المعروفة في الأوساط الشعبية باسم “بيت المال”، منذ تأسيسها إلى العام 2001 إلى حوالى الـ 90 مليون دولار.
استمرت الجمعية في التقدم والتوسع والتطور، وبحسب كتاب “شيعة لبنان في الاقتصاد: كيان موازٍ يجذب العقوبات” الصادر ضمن الموسوعة الشيعية عن “أمم للتوثيق والأبحاث” عام 2023، تجاوزَتْ قيمةُ القروض الإجماليَّة لعام 2009 الـ 117 مليون دولار مُوزَّعةً على أكثر من 72 ألف مقترض. وشكَّل الشيعةُ، وبحسب مدير الجمعية آنذاك حسين الشامي النسبة الأكبر من المستفيدين ثم السنة والمسيحيين، وتوزعوا حسب المناطق على الشكل التالي:
61 في المئة في بيروت وجبل لبنان، 25 في المئة في صيدا والجنوب، 14 في المئة في البقاع، وكانت دوافع القروض على الشكل التالي: 50 في المئة لقضاء حاجة، 27 في المئة تسديد ديون، 6 في المئة للسكن، 5 في المئة استشفاء ودراسة، 3 في المئة زواج وأثاث منزل. ووصلَ إجمالي المستفيدين منذ التأسيس حتى عام 2021 إلى 1900000 شخص، وإجمالي قيمة القروض في الفترة نفسها إلى أربع مليارات دولار أميركي. وبات للمؤسسة 31 فرعاً، 14 منها في بيروت، والباقي في الجنوب والبقاع مع مديريَّة المؤسسات.
وعن مصادر الجمعية المالية، يقول المدير التنفيذي لجمعية “القرض الحسن” عادل منصور إنه في البداية كانت تلك المصادر عبارة عن موازنات لمؤسّسات “الشهيد” و”الجرحى” و”الإمداد” من إيران، توضع تباعاً في “القرض الحسن” كودائع، ثمّ تُترجم في بعض المشاريع الاستثمارية، وقد شكّلت بعض الحقوق الشرعية في ذلك الوقت مورداً للجمعية”، فيما تحدث المدير السابق للجمعية حسين الشامي، أحد مؤسسي الجمعية، في لقاء مع جريدة “العهد” عام 2002 عن اشتراكات ومساهمات وكفالات من قبل أفراد بلغ عددهم 28 ألفاً آنذاك.
وبحسب منصور، تتعاون الجمعية مع كلّ من يُقدّم ليحصل على قرض، فتُعطي القروض وفقاً لحاجة كلّ من تتوفّر فيه الشروط بناءً على الضمانة المطروحة، كضمانة الذهب أو شخص مساهم أو مشترك، أو من خلال “صندوق التيسير لدعم المهن والحرف”. وأصبح للجمعية مشاريع يمكن للأفراد الاشتراك فيها وهي مشروع الاشتراك، مشروع المساهمة، خدمة الصراف الآلي ATM، خدمة تخزين الذهب، خدمة بيع وشراء الذهب، وخدمة Mobile Application.
أدرجت وزارة الخزانة الأميركية “بيت مال المسلمين – مؤسسة القرض الحسن” على قائمة مموّلي الإرهاب عام 2006 بحجة أنها تقوم بإدارة استثمارات “حزب الله” والعمل وسيطاً بينه وبين المصارف الرئيسية، كما فرضت عقوبات جديدة عليها عام 2016 ما ولّد توتراً بين “حزب الله” والمصارف اللبنانية التي عملت على الالتزام بالمعايير الأميركية، وفرضت واشنطن في 11 أيار 2021، عقوبات جديدة على أفراد مرتبطين بـ “حزب الله” والجمعية، واعتبرت الخزانة الأميركية أن “القرض الحسن تزعم خدمة الشعب اللبناني، لكنها عملياً تنقل الأموال بشكل غير مشروع من خلال حسابات وهمية، وتعرّض المؤسسات المالية اللبنانية لعقوبات محتملة”، وتسهم “بتقويض استقرار الدولة اللبنانية”.
الواقع القانوني
بحسب وزير الإعلام الحالي ورئيس مؤسسة JUSTICIA الحقوقية والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ المحامي بول مرقص: “جمعية مؤسسة القرض الحسن” هي خارج النظام المصرفي اللبناني، ولا تخضع لسلطة ورقابة المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف، ولا يمكن أن يمارس المهنة المصرفية في لبنان إلا مؤسسات منشأة بشكل شركات مغفلة أو مساهمة”. وشدد المحامي مجد حرب على أن جمعية “القرض الحسن” هي مصرف فعلياً، ومن ناحية أخرى هي صرّاف، ومن ناحية ثالثة هي تاجر بالذهب، مشيراً إلى أن الجمعية تحصّل أرباحاً، فالاشتراكات تحلّ فعلياً مكان الفوائد على السندات.
عام 2020 اخترقَتْ مجموعةٌ من القراصنة الإلكترونيِّين ،أطلقَتْ على نفسها اسم Spiderz ، شبكة معلومات “القرض الحسن” وكشفَتْ تفاصيلَ قيمةِ القروض ونسبة السَّداد ومعلوماتٍ أخرى عن موازنة المؤسسة لعامَيْ 2019 و2020. وتبيَّن أنها تتعاملُ مع عددٍ من المصارف، بينها ما أُقفِل على خلفيَّة عقوبات مثل البنك اللبناني الكندي وجمّال ترست بنك؛ وبنك صادرات إيران، إلى سواها من المصارف اللبنانية. وأكَّدَ المُقَرصِنون أن المؤسسةَ تديرُ حساباتها المصرفيَّة تحت ستار أسماء موظفيها، إلَّا أن الجمعية نَفَتْ ذلك وردَّت أنَّ الخرقَ الإلكتروني لم يبلغ شبكتها الأساسيَّة المُقفلة والآمنة ولم يطل الكثير من “الحسابات الفعليَّة”، وأنَّ “الأرقام […] المُدرَجة كبياناتٍ ماليَّة […] غير صحيحة.
يظهر مما سلف أن “القرض الحسن” تقوم بنشاطات بَنكيَّة تحتاج إلى تراخيصَ من مصرف لبنان، ورغم ذلك، فهي غير موجودةٍ على لائحة المصارف والمؤسسات المالية والنقدية المُرخَّصة، ومصادرُ تمويلها مجهولة بالنسبة للقانون النقدي اللبناني.
يبقى السؤال البديهي، كيف يمكن لتلك الجمعية أن تتطور وتتوسع وتبني هذا القطاع الموازي من دون أن تمر في أجهزة الرقابة المالية والنقدية اللبنانية أو تلك القضائية؟ وهل كانت السلطة اللبنانية وأجهزتها تغض الطرف متسامحة متساهلة خوفاً أو تواطؤاً؟ وهل السلطة الحالية المنطلقة بمعايير الشفافية والعدالة والحوكمة ستباشر بوضع الضوابط وإدخال هذه الجمعية إلى النظام المصرفي والمالي اللبناني كمؤسسة ضمن هذا النظام تخضع للقوانين أم سيبقى القديم على قدمه؟