مزارع شبعا… الأرض التي لا تنكر أهلها

بقلم محمد قصب – خاص بوابة بيروت

في أقصى الجنوب اللبناني في قلب جبل الشيخ، حيث الصخر يروي حكايات الصمود، والريح تمضي محمّلة بعبق الشيح والزعتر وذكريات جدودنا، تتربع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. إنها ليست مجرد أرض محتلة ومتنازع عليها في نظر القانون الدولي، بل جرح مفتوح في الوجدان الوطني اللبناني، وواجب سيادي لا يحتمل التسويف.

الجغرافيا لا تكذب

تقع مزارع شبعا جنوب شرق بلدة شبعا، في قلب منطقة العرقوب، وتمتد على مساحة تقارب 25 كيلومترًا مربعًا. هذه المساحة، التي احتلتها “إسرائيل” منذ حزيران 1967 بالتوازي مع احتلالها للجولان السوري، كانت – قبل الاحتلال – خاضعة بالكامل للإدارة اللبنانية، دون أن تكون موضع نزاع حدودي فعلي مع سوريا.

ولعل أبرز ما يرسّخ لبنانية هذه الأرض هو ما يتجاوز الجغرافيا نحو الوقائع: فالمزارع كانت تُدار من قبل بلدية شبعا، وكانت القوى الأمنية اللبنانية تمارس مهامها فيها، ويملكها أهالي شبعا وكفرشوبا بموجب سندات تسجيل في السجل العقاري اللبناني في حاصبيا، بأسماء عائلات لبنانية معروفة كـ الزهيري، القاسم، عواد، بدر، القلا وآخرين. لم تكن هنالك سجلات عقارية سورية تُثبت أي وجود قانوني للدولة السورية على هذه الأرض قبل الاحتلال.

الخرائط والشهادات الرسمية

تعزز الخرائط الرسمية التي تعود إلى عهد الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، كما خرائط الجيش اللبناني حتى ستينيات القرن العشرين، هوية المزارع اللبنانية. هذه الوثائق تم اعتمادها لاحقًا كأساس لترسيم الحدود الدولية بعد الاستقلال. لبنان قدّم نسخًا منها للأمم المتحدة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، في إطار مطالبة رسمية باستكمال الانسحاب من مزارع شبعا.

موقف الأمم المتحدة… والشرعية المعلّقة

رغم أن الأمم المتحدة، في رسمها لـ “الخط الأزرق” عام 2000، صنّفت المزارع ضمن “منطقة متنازع عليها”، إلا أنها لم تنفِ لبنانية الأرض، بل أوضحت أنها تحتاج إلى اتفاق ترسيم حدود رسمي بين لبنان وسوريا. وبتعبير الأمين العام الأسبق كوفي أنان عام 2004، فإن المنظمة الدولية “لا تستطيع أن تغيّر الحدود الدولية ما لم تتفق الدول المعنية على ذلك”، مشجعًا الطرفين على إنهاء هذا الملف ثنائيًا.

قرارات مجلس الأمن، وأهمها القرار 425 (1978) والقرار 1701 (2006)، شددت على ضرورة انسحاب “إسرائيل” من الأراضي اللبنانية المحتلة، دون حسم النزاع على المزارع، لكنها تركت الباب مفتوحًا للبنان لمواصلة مطالبه المشروعة. كما أن القرار 1680 (2006) شجّع سوريا على التعاون مع لبنان في ترسيم الحدود، في إشارة واضحة إلى خطورة إطالة أمد هذا النزاع.

حين يُستخدم التاريخ كذريعة

بعض الأصوات، ومنهم سياسيون لبنانيون، تلوّح بين الحين والآخر بمقولة “المزارع سورية”، في خلط بين نتائج الاحتلال عام 1967 وواقع الأرض قبل ذلك. هذا الطرح – ولو حمل نوايا سياسية آنية – يصطدم بعشرات الوثائق والخرائط والسجلات القانونية، وبذاكرة الناس التي لا تعرف الزيف.

نعم، تقاعس النظام السوري السابق عن إتمام الترسيم مع لبنان سمح للغموض أن يتمدد، لكن هذا لا يُنقص من عدالة القضية، ولا يُلزم اللبنانيين بتنازل عن حقهم المشروع. بل هو حافز للدولة اللبنانية أن تسعى جديًا، وبصوت واحد، لتكريس هذا الحق في كل منبر ومناسبة.

الأرض ذاكرة… وليست ملفًا إداريًا

بالنسبة لأهالي العرقوب، لا سيما في شبعا وكفرشوبا، المزارع ليست رقعة أرض في وثيقة الأمم المتحدة، بل حكاية وجود وهوية. هي الأرض التي شربت من عرق الفلاحين، ومن دماء الشهداء والمقاومين، ومن صبر الأمهات على انتظار العودة. هي الدار والكرم والمزار، وليست مجرد “نقطة على الخارطة”.

لذلك، فإن أي تساهل في المطالبة بهذه الأرض لا يُعد فقط تهاونًا في السيادة، بل خيانة لذاكرة شعب، وتفريطًا في حق وطني لا يسقط بالتقادم.

من حقّنا أن نُطالب، ومن واجبنا أن نُصرّ

كيف يمكن لسياسي أن يبتّ في لبنانية مزارع شبعا أو ينكرها، بينما يشهد الداخل اللبناني نزاعًا بلغ أكثر من خمسين عامًا بين بعض الأقضية حول ملكية القرنة السوداء، رغم أنها أرض لبنانية لا جدال في انتمائها؟! فحين يختلف اللبنانيون أنفسهم على حدودٍ داخلية من دون حلول نهائية حتى الآن، فكيف يُقبل التشكيك بأرضٍ تحتلها “إسرائيل”، يتّفق اللبنانيون على هويتها بلا تردّد؟ ويتخلى عنها البعض بلا رمشة عين، فهل سنعيد مسرحية كاريش في المزارع؟؟؟ أم أن لا مرجلة لجحا إلا على خالته؟؟

في زمن التفاوض والضغوط وتبدّل الخرائط، لا بد من التمسك بالحقيقة: مزارع شبعا لبنانية، بالتاريخ، بالقانون، وبالوجدان. وعلى الدولة اللبنانية أن ترتقي بهذا الحق إلى مستوى الملف الاستراتيجي في سياستها الخارجية، فتستند إلى الوثائق الثابتة التي تملكها، وإلى إرادة شعبٍ لم يساوم يومًا على سيادته، ولن يفعل.

إن الأرض لا تكذب، والتاريخ لا يُزوّر. وما ضاع حقٌّ وراءه شعبٌ حيّ.

اخترنا لك