لبنان ليس لعنةً يا محمّد

بقلم عقل العويط

تقول إنّ لبنان لعنة، يا محمّد. قد يكون هذا صحيحًا، لكنّه ليس لعنةً بطبعه. هو عذابُ البَرَكةِ المحبوب. على طريقة مَن يعشق عذاب معذِّبته، أو معذِّبه. ما أطيب هذا العذاب.

لا أقف لكَ بالمرصاد، بل أرى لبنان هذا، هو أيضًا – بل خصوصًا – نعمة. أريدكَ أنْ تعرف أنّه نعمة، فتقاسمني بالجدال الفلسفيّ والتكوينيّ والمجتمعيّ هذا الشعور. فهو رغيفٌ للروح بذاتِهِ، ومائدةٌ للعقل، وأعمق من أنْ يكون هذيانًا شوفينيًّا، أو تنكيلًا بالذات، أو تأويلًا لحقيقةٍ ليس مهمًّا كثيرًا أنْ أفلسفها، وأفكّكها، وأشرح كينونتها.

يفجع في هذا الموضوع، أنّ بعض أشدّ المنادين بلبنان، والمتناتشينه، من هذه الجهة وتلك وهاتيك، قد يكونون دونَ معناه، وأقلّ مستحقّيه، وأشدّ الأطراف هتكًا له، وإمعانًا في إفساده وشيطنته، تعبيدًا لمشروع صرف النظر عنه، قصورًا، وضجرًا وقرفًا ويأسًا، و… انفكاكًا عن الاقتناع بلزوم الحاجة إلى وجوده، كثيرَ ذاتِهِ، و”سيّدًا حرًّا مستقلًّا”.

يتكاتف، موضوعيًّا، مع هؤلاء في هذه “المهمّة” الملعونة، غالبيّة مَن يتبارى في طلب رئاسته وخدمته. ناهيك بالمحيقين به جنوبًا وشمالًا وشرقًا. فضلًا عمّن يجد فيه وكرًا لمصالحه، من الأبعدين والأقربين.

فمن المنطقيّ جدًّا اعتباره لعنةً يا محمّد، لشبه استحالته، وللأسباب المذكورة. علمًا أنّ في مقدوري زعمَ التسلّل، بالحدس والموهبة، إلى وجدانكَ الذي تحت الوعي التفكيكيّ، ووراءه، وفي باطنه، لأخلص إلى مقولةٍ مفادها أنّكَ، وأنّنا، في لحظةٍ جليلةٍ من لحظات التجلّي الفكريّ، قد نرفض الانصياع إلى كونه لعنةً، والقبول باعتبارها أمرًا واقعًا مفروغًا منه.

هذا كمثّل النزول إلى الجحيم، والإقامة فيها، يا محمّد، وكمثل الاصطراع الناجم عن عواصف الوجد والشغف والجوى والهوى والهيام، حيث كرهُ هذه الحال، ورغبةُ الفرار منها، هما أيضًا حبٌّ وحلمٌ ورأفةٌ، وغسلٌ لليد، وامتناعٌ عن التواطؤ وغلقِ الباب، ورفضٌ لإطلاقِ رصاصةِ رحمة.

وكم أخوض في هذه المفارقات المتناقضة، وأنغمس فيها، وأتلاقى معها، وأرفضها، يا محمّد، إذ تجرفني في لحظات المرارة القصوى رغباتٌ في “القتل الرحيم”، سببُها، ربّما، ما تسمّيه، يا محمّد، لعنة لبنان. وما أصعب ذلك!

وفي هذه اللحظة المفصليّة الحاسمة التي يُمتَحَن فيها مصير بلدنا، بل مصير المنطقة العربيّة كلّها، وما يُسمّى بالشرق الأوسط، أتفهّم جيّدًا إحساسكَ باللعنة، يا محمّد، حيث لا نجد مَن يتحلّى لينبري من أهل لبنان ورئاساته إلى رفع اللعنة عنه، والى الترفّع، والارتفاع إلى ما تتطلّبه اللحظة الحرجة هذه من اللوذ بالرؤيويّة النبيهة وبحصافة العقل والحكمة.

وهذا إنّ دلَّ، فعلى أنّ أهل لبنان ورئاساته، هم – تقريبًا – قحطٌ وتصحّرٌ كلُّهم، وقطعانٌ، وفسادٌ، وصِغَرٌ، وانعدامُ رؤى ومواهب، وإمعانٌ حتّى الثمالات في إفساد النعمة والبَرَكة، حدَّ تحويلهما لعنة.
كلُّهم تقريبًا.

أرأيتَ، يا محمّد، كيف نستغيث بلزوم استبطان “الدولة العميقة” للحكمة، ولعلم النفس والاجتماع، وبالحاجة إلى التحفيز والاختراع، طردًا للعنة، وتحييدًا للبنان.

وأقول لكَ ولنفسي: يجب أنْ ينجو لبنان. وأن يتحرّر من لعنته. وعارٌ ألّا ينجو، وألّا يتحرّر. وليس ذلك بسوى أعجوبة العقل. وإنْ بالقوّة الفلسفيّة… و/أو بإجماع القوّة الأمميّة. ومن غير دم.

اخترنا لك