كتب د. عادل العوفي / الأيام البحرينية
التجارب الإنسانية تمثل رحلة معقدة بدأت منذ فجر الحضارة، حين بدأ الإنسان يتفاعل مع الطبيعة المحيطة به، ساعيًا نحو البقاء والاستمرارية. وقد تطلبت هذه التجارب ارتكاب الأخطاء والصواب، لكي ينكشف له وجه الحقيقة، وتصل به إلى النتائج الأكثر دقة؛ لذا، تطور التواصل بين القبائل والأسلاف الأوائل، ما أتاح تبادل الخبرات والاستفادة من تجارب الآخرين، وهو ما ساهم في تنمية الإدراك والتفكير. كما أسهمت هذه التجارب في تشكيل العقائد والثقافات المتنوعة، التي بدورها أثرت في السلوك الإنساني وأنماط التفكير والقواعد والمبادئ.
تأثر الفكر الإنساني بالبيئة المحيطة، حيث تشكَّلت الجماعات والقبائل والأحزاب التي اتفقت على مبادئ وعقائد محددة لتعزيز وجودها. ورغم تنوع الفلسفات عبر العصور، إلا أن العديد منها لم يستطع الصمود أمام تحديات الزمن، إذ لعب الجمود الفكري والعقائدي دورًا بارزًا في انحسارها.
الجمود العقائدي يمثل التمسك القوي والمُتعصب بمجموعة من الأفكار والمعتقدات، حتى وإن كانت بعيدة عن مواكبة المتغيرات التاريخية والظروف المحيطة. يتمثل هذا الجمود في رفض الحوار والتطوير، حيث تكتسب تلك المعتقدات صفة القدسية، ويصبح زعماؤها رموزًا لا يجوز الاقتراب منهم أو انتقادهم أو حتى مناقشتهم.
ترتبط أسباب هذا الجمود بالخوف من التغيير والنشأة المتشددة، إضافةً إلى غياب الانفتاح الفكري الذي يسمح بالتفاعل مع الأفكار الأخرى، ما ينجم عنه جهل معرفي عميق.
هذا الوضع أسفر عن صراعات اجتماعية غير مبررة، استنزفت طاقات المجتمع نتيجة الانغلاق وعدم قبول الرأي المختلف. وقد يؤدي الجمود العقائدي، بحد ذاته، إلى عجز عن التكيف، ما يساهم في ازدياد حدة الصراعات والتطرف والعنف.
إن الجمود العقائدي والتمسك بالمبادئ هما مفهومان يتباينان بشكل واضح، فالمبادئ الفكرية رغم صحتها إلا أن الجمود العقائدي يعيقها ويؤدي إلى فشل نتائجها. بينما التمسك بالمبادئ يُعد التزامًا أخلاقيًا، يستمد قوته من مرونة التغيير وفقًا للمتغيرات التاريخية، ويمكنه التكيف والتطوير المستمر من خلال النقد والمراجعة الذاتية. إن المبادئ تُعتبر دليلاً يُستعان به، لكنها ليست قيودًا صارمة تمنع الحركة.
والعقائد السياسية متغيرة بحد ذاتها، ولكنها تتجمد مع الزمن إذا لم تُرَاجَع من مدخل واقعية التطبيق العملي، حيث يتطلب الأمر دراسة إمكانية ووسائل تطبيق المبادئ. وفي المجال السياسي على سبيل المثال لم تصمد الدولة السوفيتية الاشتراكية الأولى أكثر من سبعين عامًا، رغم مبادئها، وأحد العوامل كان الجمود العقائدي وقدسية الزعامة التي تناقضت مع نهج «الديالكتيك» والمقصود به الإيمان بالتجديد والتغيير والحوار والتطوير والجدل، والذي تم تبنيه في النظرية الاشتراكية والمستمد من الحضارة اليونانية «كل شيء يتحرك، كل شيء يتغير، كل شيء يجري».
الانتقال من حالة الجمود العقائدي إلى فكر نقدي ديمقراطي، مع الحفاظ على المبادئ، يعد من المطالب الملحة لتعزيز مسيرة الأمم. إن تحقيق المرونة السياسية يتطلب التخلص من الأنماط التقليدية التي لن تسهم في تحقيق التقدم في القضايا القومية والوطنية، بل ستؤدي إلى تفاقم الخسائر الوطنية، ما يعرقل جهود النهضة وبناء المجتمعات المدنية. يجب أن نعمل على تنشئة أجيال تمتلك القدرة على التمييز والتكيف، وتتنوع خياراتها، وتبني شخصيتها المستقلة فكريًا، بينما تظل متشبثة بوطنها وحقوقها ومسؤولياتها ومبادئها السامية.