لبنان : بين العطش والوفرة

رؤية متكاملة للمواطنين وصنّاع القرار من أجل ثورة مائية عادلة ومستدامة

بقلم كوثر شيا

في بلدٍ تنبع فيه المياه من رحم الجبال، وتنساب من بين الصخور، نعيش مفارقة موجعة: نشتري الماء لنشرب، بينما الهدر يحيط بنا من كل جانب.

في بيتي، كما في بيوت كثيرة، لا نشرب من الحنفيات. نشتري قناني بلاستيكية نجهل مصدرها، وندفع ثمنها من تعبنا وكرامتنا، بينما يمرّ نبع صافٍ على شط البحر من دون أن يُستثمر… وكأنّ أحدًا لا يرى.

لكننا نرى. نرى هدر المياه، وفساد المشاريع، وتشويه الطبيعة باسم “التنمية”. نرى الجبال وقد قُطعت، والوديان وقد جفّت، والتاريخ وقد مُسِح، فقط لأن الدولة تدير ملف المياه بمنطق التجزئة، لا بمنهج الوطن.

الحقيقة كما نعيشها

وفرة مائية + إدارة فاشلة = أزمة مفتعلة
• لبنان يستقبل نحو 1.2 مليار متر مكعب من الأمطار والأنهر سنويًا، لكن 50–60% منها تُهدر قبل أن تصل إلى بيت المواطن.
• أكثر من 74% من الأسر تعتمد على المياه المعبأة، في وقتٍ تفيض فيه البلاد بأكثر من 12 نبعًا رئيسيًا يمكن أن تغطي نصف حاجاتنا اليومية، لو أُديرت كما يجب.
• الحكومات روّجت لخطط سدود بمليارات الدولارات (مثل بسري والمسيلحة)، لكنها فشلت تقنيًا، ودمّرت بيئيًا، وأفلست ماليًا.
• نهر الليطاني تحوّل إلى نهر نفايات، ونبع البياضة في بعلبك جفّ بعد آلاف السنين.
• على الشاطئ اللبناني، توجد مياه بحرية نظيفة في مناطق محددة يمكن تحليتها بمحطات صغيرة وذكية، لكنها تُترك مهملة رغم قدرتها على تأمين مياه شرب لمئات العائلات.

حماية التاريخ والطبيعة الأم

حين نتحدث عن “المياه” في لبنان، فنحن لا نتحدث فقط عن مورد طبيعي، بل عن جزء من ذاكرة حضارية وجغرافية مقدّسة.
• وادي بسري ليس مجرد موقع محتمل لسد، بل هو ممر تاريخي مرّت فيه القوافل الرومانية، ويحوي آثارًا كنسية وبيئية تعود لآلاف السنين. هو نبض من نبضات الأرض.
• وادي الحرير، المعروف قديمًا بـ”طريق أشجار التوت والقوافل”، كان ممرًا للتجارة بين معبد أشمون وعنجر، حيث تناغمت الطبيعة مع الحضارة.
• من ينابيع القاع إلى نهر الكلب، تمتلك لبنان إرثًا نادرًا من التنوع البيولوجي والمائي، ليس ملكًا لجيل واحد بل أمانة في أعناقنا جميعًا.

أي خطة مائية وطنية يجب أن تبدأ من الاعتراف بهذه الكنوز كمقدسات لا تُمسّ، وتُدمج في نموذج تنموي يحترم التاريخ، ويُفعّل التراث، ويمنع التدمير باسم “المشاريع الكبرى”.

إلى المواطن اللبناني: لستَ عاجزًا… بل مُغيَّب عن أدوات الحل
• يمكن جمع أكثر من 100 لتر/م² من مياه الأمطار سنويًا من أسطح المدارس والمباني العامة.
• وحدات التحلية الصغيرة أصبحت متاحة وبأسعار معقولة، وتعمل بالطاقة الشمسية.
• بعض الينابيع مثل عنجر، البياضة، وراشيا لا تزال صالحة للشرب ويمكن ربطها مباشرةً بالبلدات.

كل سطح مدرسة، كل نبع مهمل، وكل نقطة مطر… يمكن أن تكون بداية الثورة المائية التي نحتاجها.

إلى الدولة اللبنانية

لن تُحلّ الأزمة بدونكم… ولن تُحلّ بكم وحدكم.

على كل الوزارات المعنية (الطاقة، البيئة، الصحة، الزراعة، الداخلية…) أن تجتمع على طاولة واحدة، وتضع خطة موحّدة قابلة للتنفيذ والتقييم.

خطة إنقاذ قابلة للتطبيق

1. تمكين المجتمعات من مصادرها
• وحدات معالجة محلية على الينابيع تُدار من البلديات.
• تحويل المدارس والمباني العامة إلى نقاط ذكية لحصاد مياه الأمطار.

2. دمج الابتكارات التكنولوجية
• وحدات تحلية لا مركزية تعمل بالطاقة الشمسية، تعتمد على أغشية الغرافين.
• حساسات ذكية لرصد التسربات وتقليل الهدر إلى أقل من 20%.
• تطبيق وطني لربط المواطن بجودة المياه وسعرها ومصدرها.

3. إصلاح الحوكمة والإدارة
• إنشاء المجلس الوطني الموحّد للمياه.
• فرض عدادات ذكية تحقق عدالة الفوترة.
• حماية وادي بسري، وادي الحرير، نهر الليطاني ومعبد أشمون، وتوظيفها كنماذج إدارة بيئية مستدامة.

بين الواقع والإمكان

كيف نحول الوفرة المهدورة إلى أمان مائي؟

الموارد المتوفّرة حاليًا
• الينابيع الطبيعية (البياضة، عنجر، راشيا، الفقرا): قادرة على تزويد عشرات القرى بمياه صالحة للشرب دون تدخلات معقدة.
• مياه البحر النظيف: خصوصًا في المناطق البعيدة عن الصرف الصحي والمصانع، قابلة للتحلية بتقنيات حديثة.
• مياه الأمطار: معدلها 910 ملم سنويًا، وهي ثروة حقيقية إذا حُصِدت وأُعيد استخدامها.

التكنولوجيا المتاحة
• أغشية الغرافين لتحلية المياه: أقل استهلاكًا للطاقة بـ50% من التناضح العكسي.
• أجهزة استشعار ذكية لشبكات المياه.
• تطبيقات رقمية شفافة لإدارة المياه والتواصل مع المواطن.
• تقنيات الري بالتنقيط الذكي: توفّر حتى 40% من مياه الري الزراعي.

مشاريع مستقبلية ممكنة التنفيذ
• محطات تحلية لا مركزية على طول الساحل.
• نقاط حصاد مطري ذكية في المدارس والمباني العامة.
• تأهيل شبكات القرى بالتعاون بين البلديات والقطاع الخاص.
• مراكز تدريب بيئي لتأهيل الشباب.
• دمج التراث البيئي في مشاريع السياحة البيئية لتوفير فرص عمل.

الماء مرآة الوطن: إن فقدناه، فقدنا المعنى

حين يُهمل النبع، لا يجف الماء فقط… بل تجف العلاقة بين الأرض والإنسان.

حين نرى البحر ونخاف أن نشرب منه، فهذه ليست أزمة تقنية، بل أزمة ضمير.

لبنان لا يحتاج إلى سدود وهمية، بل إلى خطة حقيقية يشارك فيها الدولة والمجتمع معًا.

حين نحترم الماء، نحترم أنفسنا. حين نحمي الينابيع ونُحسن استخدام مياه البحر، نبني وطنًا قابلًا للحياة.

اخترنا لك